المسافة التي تفصلنا عن الآخر الأوروبي أو الأمريكي أو حتى المكسيكي والفنزولي، مسافة لا يمكن أن نقيسها بالمتر ولا بالفكر المكعب ولكن بعدد سنين الضوء التي تقف حاجزا طبيعيا حتى تتمكن حشرة من التحول إلى إنسان له بعض الحقوق وبعض الكرامة ممزوجة بما يسمى عزة مفقودة تقرها كافة دساتير العرب. فالإنسان العربي بشكل عام والجزائري بشكل خاص وخالص يلزمه قرون من الانتظار حتى يلتحق بركب من لا يختلف كائنان على أنهم إنس لهم الحق في الحياة وفي الوجود وفي تنفس الهواء بحرية وكرامة.. ساركوزي نابليون فرنسا، المذموم هذه الأيام من طرف من انتخبه إمبراطورا للبر والبحر الإفريقي، جعل من قضية الطفلة ''صفية'' الجزائرية قضية دولة وقضية أمة وقضية ''مسيح'' مطلوب منه أن يستجيب لصرخة مواطن على دينه ادعى أن الجزائر اختطفت منه ابنته وأن من حقه على فرنسا وعلى نابلوينها أن يعيدوا له ما سلب منه، وزيارة ساركوزي التاريخية إلى جغرافية أجداده القديمة، حملت في حقيبتها ورقة كانت هي مفتاح المفاوضات للمرور إلى مرحلة الغزل بين البلدين، والورقة لم تكن مرتبطة بالنفط ولا بالغاز الطبيعي أو ''البنزنس''، ولكن بطفلة طلب الرئيس من مضيفه الرئيس أن يولي تحريرها عناية خاصة كونها قضية أمة فرنسية مطلوبا من ساركوزي حلها، والنتيجة أن صفية رحلت وتمت ''أنجلتها'' وأول ما فعل والدها الذي ادعى أنه مسلم حينما احتضنها أن قاد الطفلة من يدها إلى أقرب كنيسة ليقول للعالم إنه ليس مسلما وإن ابنته كذلك وإنه على دين آبائه إلى يوم يبعثون.. من قضية صفية إلى قضية الشابة الفرنسية كولتيلد ريس، المحتجزة في إيران على ذمة محاكمة علنية لموظفة السفارة الفرنسية في إيران والتي ألقي عليها القبض وهي تشارك في مسيرات وتظاهرات تنادي بسقوط نظام ''أحمدي نجاد''، انتفضت فرنسا الحرية والعدالة والمساواة واعتبر ساركوزي أن قضيتها قضية أمن دولة وأمن أمة ليدخل الرئيس بشحمه ولحمه في مفاوضات مع نووي إيران من أجل الإفراج عن المواطنة الشابة التي كانت تعد التقارير الأمنية للسفارة وتشارك بقلبها وكيانها في تسيير انقلاب على الرئيس الإيراني الذي لا تربطه صلة دم ولا قرابة بفرنسا ولا بساركوزي، والبقرة الناصعة البياض في قصة من تسميه الصحافة الفرنسية بالعربيد أو السكير العاشق أنه ذلك السكير يرمي الكأس جانبا ويستعيد عقله وتوازنه بمجرد أن يعرف أن فرنسيا ما يعيش مشكلة خارج بلاده.. وكما ترون القيامة قامت ودبلوماسية فرنسا بكافة مستوياتها سخرت من أجل حل قضية الشابة الفرنسية وإعادة حريتها لها. والفرق شاسع بين جماعتنا من حكام ''اليوم خمر وغد نفط'' وبين ساركوزي يعرف جيدا متى يثمل ومتى يرفع هامته من أجل هامة مواطن أو مواطنة فرنسية تعيش مأزقا خارج الديار. فمهازلنا كأمة عربية مخمورة ومغلوبة على قهرها جسدتها قضية الدكتورة المصرية، مروة الشربيني، التي اغتالها متسكع ألماني داخل محكمة ألمانية بلا ذنب أو جرم سوى أن الشهيدة كانت ترتدي حجابا كان فيه مقتلها وخلودها، ورغم أن الجريمة كانت كاملة وواضحة ولا لبس فيها إلا أقصى ما فعلته أمة العرب وأمة مصر أن دفن الفراعنة جثتهم واكتفى حكامهم بلبس النقاب حتى لا يرى الكون أن مقتل عربي لا يضاهي ولا يساوي الدوس على حشرة في زمن كان يمكن لحكامنا أن يحشدوا جيوشهم ويستنفروا أجهزة دولتهم لو كانت القتيلة هيفاء وهبي أو ليلى علوي. والمهم أن مهازلهم هناك في مصر لا تختلف عن مهازلنا هنا في الجزائر، فالأمة العربية موحدة في المهانة من محيطها إلى خليجها، والبلد الوحيد والأوحد الذي يخيط فيه مظلوموه أفواههم هو هذه الجزائر العظيمة وهذا الوطن الكبير الذي ابتلاه حكامه بوزير جالية يتقن تسويق الكلام وتسويف الوعود أمام انهيار وتهاوٍ لقيمة الإنسان الجزائري، مهما كانت مكانته من ''حراف'' إلى عامل يومي أو إطار جامعي وانتهاء بدبلوماسي ظل رهينة عند الفرنسين لحول من الزمن والنتيجة.. أننا حشرات مطلوب تطويرها وإجراء التجارب عليها لقرون عدة حتى يمكنها أن يلتحق مواطنوها بمرتبة الإنسان أو حتى الحيوان الأليف الذي تثور لأجل حقوقه وكرامته جميعات الرفق بالحيوان.. فرق كبير بين الإنسان عندنا والإنسان عندهم، وبون شاسع بين الحكام عندهم و''الأزلام''، وهي أقداح القمار، عندنا، فهنالك حيث الإنسان عندهم قضية دولة وأمن دولة يرمون الأقداح ويهجرون العربدة والسمر إذا ما تعرض إنسان منهم لكبوة، وهنا عندنا يمكنك أن تغرق أو تقتل أو تحرق أو تخيط فمك فالأمر سيان وقاعدة من يحكمون هذه الحشرات المسماة نحن، أنه ليس الأول وليس الأخير والموت حق وقدر ومقتل حشرة لن يؤثر في التعداد السكاني لعرش مولانا الحاكم العربي الأشم والفحل الذي وفر لشعبه الحق في التناسل لتعويض الابن أو الابنة المفقودة فالقانون العربي الموحد يحمي المتناسلين.. فمنه العوض وعليه العوض فيكم يا سادتنا وسدنتنا الكرام.. إبرة وعبرة.. زراه السفير الجزائري في سجنه بأوكرانيا واقتنع بأن الشاب الجزائري مظلوم وأنه لا علاقة له بالجريمة المتهم فيها، ووعده وعد المسؤول الحر بأنه سيحل القضية وهو الأمر الذي طمأن الشاب بأن الجزائر بخير وأن قضيته قضية وطن وقضية أمة وأنه بعد أيام سوف يحلق حرا لأن سفير بلده طمأنه، وجاء يوم المحاكمة ولأنه واثق من أن الوطن كبير وأن بلده عظيم وله مكانه بين الأمم، كما أن السفير زاره ووعده وطمأنه فإن الشاب لم يحتج إلى محامٍ يدافع عنه، فالوطن يدافع عنه والسفير جعل من قضيته قضية أمة .. وبعد الاستماع إلى المتهم الذي كان مؤمنا بالبراءة صدر الحكم ولم يكن إلا 12سنة سجنا.. فهل تعرفون ماذا فعل الشاب الجزائري مروان سعدي.. لم يبك.. ولم يصرخ فقط طلب إبرة ثم أخاط فمه ولو سئل لماذا فعل ذلك لرد حتى لا أقول إنه عندي وطن..