غيّب الموت فنانا متكاملا بشهادة الجميع، فهو مصطفى تومي الذي صنع روائع السينما والمسرح والأغنية الشعبية الجزائرية، فكتب "سبحان الله يا لطيف" ل«العميد" امحمد العنقى و«الصومام" لوردة الجزائرية. وظل الراحل يعاني المرض وحيدا في مستشفى "مصطفى باشا" قبل أن يتذكره المسؤولون ويسارعوا إلى نجدته من وحدته ببرقيات التعزية والإشادة بمساره الفني والأدبي من خلال استخدام "أرق" عبارات الآسى في الوقت الضائع. وستلقى النظرة الأخيرة على الفنان صباح اليوم بقصر الثقافة "مفدي زكريا" قبل أن يوارى الثرى ب«مقبرة القطار" في العاصمة. ويقول العارفون بمسار الرجل، إنه فنان شامل متكامل يحترم الأطر العلمية، في حين أوضحت ابنته "إيمان" متأثرة أمس "والدي كان يرسم لوحات ويحتفظ بها في البيت ولم يفكر يوما في بيعها ولم يسبق له أن عرضها". ويصعب كثيرا الحديث عن مصطفى تومي في أسطر أو صفحات، فإرث وتاريخ الرجل ثقيل جدا، يمتد من منجزه الثوري والفني مع الفرقة المسرحية ل«جبهة التحرير الوطني" وصولا إلى عقود ما بعد استرجاع الاستقلال، ودفاعه عن قضايا الشعوب وحركات التحرر في قصائده وأعماله، فوصلت كلماته إلى أقاصي القارة الإفريقية محمولة على صوت الفنانة الراحلة "مريم ماكيبا"، إلى جانب عمالقة الفن الجزائري. وقدم هذا الفنان الكاتب الشاعر المناضل، عشرات الأغاني منها "تشي غيفارا" التي أداها الفنان محمد العماري و«يا دلال" لنادية و«كي اليوم كي البارح" لعمر العشاب. كما كتب في مجال السينما وقدم "سيناريوهات" وحوارات لعدة أعمال منها "الشبكة" التي احتوت على الأغنية المشهورة "رايحة وين؟"، وفيلم "المفيد" لعمار العسكري. أما في مجال البحث الأكاديمي فقدم عدة أبحاث منها "اللسانيات المقارنة"، و«علاقة اللغات السامية والهندو أوروبية"، و«ساكسريت اللغة المقدسة"، إلى جانب دراساته في عمل النفس. وإلى جانب كل هذا، يعد مصطفى تومي متمكنا جدا في اللغة العربية الفصحى، ونهل من أمهات الكتب في اللغة العربية والشعر العربي القديم والمعاصر. في السياق ذاته، ولد الأستاذ مصطفى تومي في ال 14 جويلية 1934 ب«حي القصبة" في العاصمة، وزاول دراسته بمدرسة "سودان" ثم "بالي"، إلى أن التحق بمدرسة "سان لوي" التي كان لها صيتها في العاصمة. وشارك منذ صغره في حصص الأطفال بالإذاعة، وخاصة في الألعاب وأداء المسرحيات باللغة العربية، والأمازيغية والفرنسية. وبرع منذ صغره أيضا في الشعر بالفرنسية، حيث نشرت له جريدة "ألجي ربوبليكان" في بداياته وكان يتعامل فيها مع أكبر الكتاب أمثال "ألبير كامو". وأدى الراحل دورا في مسرحية "كهينة" مع الراحل مصطفى كاتب ووهيبة، وتأثر بحياة والده الحلاق الذي كان بطلا، حيث استطاع في الحرب العالمية الثانية أن يشارك في تحرير مدينة باريس. وبدأ تومي نضاله السياسي في ال 17 من عمره، إذ كلفه قادة الثورة بمهمة الاتصالات بباريس وتونس ثم كلفه الراحل محمد بوصوف وسعد دحلب بالعمل في الإذاعة السرية في مدينة "الناظور" المغربية ليكتب ويقرأ البيانات باللغة الأمازيغية والفرنسية. من ناحية أخرى، كان لمصطفى تومي مسار مميز بعد استرجاع الاستقلال، حيث عمل بعدة صحف وطنية، كما عمل بوزارة الثقافة مع بشير بومعزة ثم مع الصديق بن يحيى كمستشار تقني، وشارك في تنظيم المهرجان الإفريقي الأول الذي احتضنته الجزائر بمشاركة فنانين عالميين وكتب أغنية "أفريكا" لمريم ماكيبا، كما تكفل بتنظيم مهرجان الأغنية الشعبية والشعر الملحون الذي لا يزال متواصلا إلى اليوم.