الدكتاتور كائن كريه جدا وبغيض إلى أبعد حد.. ومثله في الكراهة من يزمر له.. ومن يقبل يديه وقدميه.. ومن يتحول إلى سوط يلهب به أجساد معارضيه.. ومن يتمدد له ليعبر على ظهره إلى نزواته وشهواته.. فمملكة القمع والقهر عنوان جامع لكل الفاسدين والمفسدين.. بالأصالة أو بالنيابة.
فمرارة الدكتاتورية كمرارة الاستعمار.. تحفر أثرها الغائر في النفس.. ولا تزول إلا بزوال آخر دكتاتور عابث وساقط.. وتبخر آخر معاون له.. وغروب آخر يوم في حقبة الرعب والنفاق. وبغض النظر عن كون الدكتاتور.. ملكا أو أميرا أو رئيسا يحكم بأمره ويضع الشعب تحت قدميه.. أو قائدا ملهما ينام على كرسي السلطة مدى الحياة.. أو عسكريا تسلل ليلا إلى القصر الرئاسي.. وأعلن نفسه آمرا منفردا.. أو حزبا وحيدا تحول إلى مباءة للجراثيم الفتاكة.. فإن الدكتاتور يظل حالة غير سوية.. لا يقبل التهذيب أو الإصلاح.. وحالة عصية على العلاج بالمضادات الحيوية.. بما يقتضي تدخلا جراحيا حاسما. هذا في المجمل.. وبالتفصيل.. هل يصدق هذا على أمير قطر.. وما يشاع عنه.. من أنه دكتاتور في الداخل.. ومأمور في الخارج.. وأنه في كل ما يقوم به.. يستجيب لإملاءات يتلقاها.. ليتدخل في الشؤون الداخلية للدول.. ويشتري بالمال ذمم الحكام والشعوب؟ هذا السؤال يجب أن نجيب عنه.. لسببين على الأقل: الأول كي لا نحط من قدر الرجل إن كام مخلصا وعلى حق ، والثاني كي لا نتحول إلى عازفين في جوقة بعض الأنظمة المرتعبة من الثورات العربية.. فنرسل على موجاتها.. فنظلم الرجل وهو بريء. كل ما ندعو إليه.. هو تحري الحقيقة.. وتبيان الحق ونصرته.. بدل السعي إلى طمسه.. لفائدة هذا الفاسد أو ذاك. ********* الذين يتهمون أمير قطر.. يدعون أنه يتدخل فيما لا يعنيه.. رغم أن إمارته أصغر من أن تتيح له كل هذا التأثير.. فالأنظمة القمعية تؤاخذه على انفتاحه الإعلامي غير المسبوق.. وأنه يوفر ملاذا لكل المعارضين العرب.. ليمارسوا على حد تعبيرهم شغبهم من الدوحة.. ففي تونس يقول المعارضون بلا معارضة (إن قطر تدخلت في تشكيل الحكومة التونسية الأولى.. إشارة إلى وزير الشباب والرياضة الذي كان يعمل في قناة الجزيرة.. وصهر رئيس حركة النهضة الذي يعمل مديرا للدراسات في مركز الدراسات التابع للقناة).. ويضيفون “إن راشد الغنوشي قد تلقى 150 مليون دولار من أمير قطر لتمويل الحملة الانتخابية لحركته". وحتى سلطة رام الله.. تدخل على الخط.. وتتهم على لسان (رئيس دائرة المفاوضات في منظمة التحرير الفلسطينية) أمير قطر (باستثمار أموال بشركات إسرائيلية عالمية لها مصانع في مستوطنات الضفة الغربية).. وعندما زار الأمير غزة اتهمته فتح (بمحاولة تحسين مكانته على حساب الشعب الفلسطينى، واعتبرت زيارته لحظة حزينة فى تاريخ الشعب الفلسطينى).. وإذ يضنون بأي فضل على هذا الأمير.. ثمة من يقول إن (الهدف الرئيسى من الزيارة هو مكافأة حماس على قطع علاقاتها مع إيران وسوريا). وفي مصر تتولى المعارضة سب وشتم الأمير.. في ظلل اتهامه بدعم مرسي والإخوان.. فيدعي صاحب قناة تلفزيونية يطل منها الشيطان كل يوم أن أمير قطر (عميل لإسرائيل وخائن للعرب).. ويصفه بعد ذلك بما لا يليق ذكره. ومما يؤسف له.. أن شيعيا لبنانيا ينتسب إلى الجزائر يتهم الأمير بأشياء غير أخلاقية مع تسيبي ليفني اليهودية.. ويقول عن نفسه (إن قطر حاولت رشوته براتب شهري يقدر ب30 ألف دولار، وبطاقة ائتمانية مفتوحة، وتذاكر سفر لمختلف العواصم العالمية، وإقامة في مختلف الفنادق المصنفة عبر العالم، إلا أنه رفض..). وفي السياق ذاته تشن نائبة في البرلمان الأردني (هجوماً نارياً لاذعاً على أمير قطر.. متهمة إياه بالعمالة والتآمر على سورية). وثمة تهم أخرى تلصق بالأمير وقطر وقناة الجزيرة.. نستنكف عن ذكرها.. فهل الأمر على هذا النحو حقيقة.. أم إن حسابات شخصية وقطرية وإقليمية.. هي التي تملي كل هذا التحامل على الأمير؟ ********* أتساءل: ما فائدة أمير قطر من كل ما يجلب عليه المتاعب والعداوات.. ويضعه في مرمى الأعداء والخصوم؟ لماذا لا يختار موقفا مماثلا لما تفعله الكويت أو عمان أو الإمارات أو حتى السعودية.. وينأى بنفس عن هذه الصراعات والاتهامات.. ليسخر جهوده لتنمية الإمارة؟ أليس بمقدوره أن يفعل ذلك.. بدل أن يختار طريق آخر؟ أنا لا أملك الإجابة الجازمة عن هذه الأسئلة.. غير أني لا أجد سببا لإنكار أن قطر.. وكاستثناء وحيد بين الدول العربية كلها.. كانت ولا تزال الدولة الوحيدة.. التي تساهم عمليا في إعادة إعمار غزة وتزويد القطاع بالنفط لتشغيل محطة الطاقة.. وهي التي مكنت قيادة حماس من الاستقرار فيها.. بعد أن ضاقت بها الأرض العربية.. والأمير القطري.. هو الحاكم العربي الوحيد الذي زار غزة.. رغم أنف إسرائيل وسلطة رام الله التي تبيع وتشتري مع الصهاينة.. وقطر هي التي بادرت بإنشاء صندوق القدس بودائع تبلغ مليار دولار.. تبرعت قطر بربع مبلغه.. داعية الدول العربية الأخرى إلى إكمال الباقي.. على أن يتولى بنك التنمية الإسلامي إدارة الصندوق. أليست قطر هي البلد العربي الوحيد الذي دعم ثورات الشعوب العربية ضد الدكتاتوريات المقيتة.. بدل أن تترك هذه الشعوب تقتات من بؤسها الأجهزة القمعية؟ أي حاكم عربي ونقيض حالة الخنوع والصمت أمام الغرب المنافق.. وقف ليقول في منتدى فيينا لتحالف الحضارات (إن دولا مركزية في مجلس الأمن الدولي تساهم في تغطية وحماية النظام السوري الفاقد للشرعية من أجل الاستمرار في قتل الشعب هناك.. وإن دولا كبرى أخرى تكتفي بإدانات لفظية لممارسات النظام السوري).. ويؤكد أن (ما يحدث في سورية وفلسطين من أعمال عنف وانتهاكات صارخة لحقوق شعبي البلدين يشكل وصمة عار في جبين الانسانية)؟ إن الحصار الذي تتعرض له الحكومات المنتخبة في مصر وتونس.. وليبيا بصورة أقل.. يجد تواطأ من قبل دول عربية عديدة ومنها بصفة خاصة الإمارات العربية .. فلماذا اتخذت قطرا موقفا مغايرا.. لتقرر دعم مصر (بإيداع مبلغ ملياري دولار لدى البنك المركزي المصري).. وكذلك فعلت مع تونس؟ إن دور قطر في دعم الثورة السورية بارز.. ولا أعتقد أنه مرتبط بأية (أجندة) أو حسابات خاصة.. فتمكين الائتلاف من الوطني لقوى الثورة والمعارضة من دخول الجامعة العربية.. ومنحه السفارة السورية في الدوحة.. موقف استثنائي وتاريخي لم تجرؤ أية دولة عربية أخرى على تبنيه. إن اتهام قناة الجزيرة.. بالعمالة لإسرائيل.. كاتهام قطر باستضافة القرضاوي ومنحه موقعا يصرخ منه في وجوه الأنظمة المستبدة.. ليس أكثر من صدى لأولئك الذين يريدون للشعوب العربية أن تظل قابعة في سجن الدكتاتوريات البائقة. وسواء أكان ما يفعله الأمير.. لحساب مصلحته الذاتية.. أو من منطلق مبدئي.. ألا يحق الاعتراف له بالفضل والجميل.. بدل اتهامه وسبه.. والقدح في شخصه؟ إن كان لكم ما تدينون به هذا الأمير.. خارج نطاق الدعايات الفارغة.. نريدكم أن تعرضوه.. فالحق أحق أن يتبع.. وإلا فليصمت من لا يجد شيئا يفعله غير الادعاء على الآخرين.. بلا دليل أوبينة.. “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ" (الحجرات 6).