د.أحمد شرفي الرفاعي يعاني الخطاب الإسلامي المعاصر من أزمات عديدة ومتزايدة يتعلق بعضها بمضامين الخطاب، ويتعلق بعضها الآخر ببنية الخطاب الفكرية والأسلوبية والتركيبية د(الإخلاص، التحليل، التخطيط، القدرة على صناعة الفعل وليس رد الفعل الخ..). ومن بين تلك الأزمات ما يتعلق بتوظيف أسلوب التبرير بدل رؤى التحليل، والتعليل والاستنتاج، وذلك ما جعل الخطاب الإسلامي المعاصر عامة يتسم بالجمود والاجترار بدل التطور والإبداع ومواكبة الواقع الإنساني المعاصر. ومثال ذلك ما قيل ويقال عن أزمة مصر وتونس، وقبل ذلك ما قيل عن مختلف قضايا المسلمين عامة، القديمة والحديثة، فهو لا يخرج عن النمط التبريري الاجتراري والمتمثل في اتهام خصوم المسلمين بالتسبب لهم في كل ما يواجهونه من أزمات، وفي الوقت نفسه تبرئة المسلمين من مسؤولية الأخطاء، والتقصير وسوء التقدير، وربما الخيانة، ومن هذا المنظور وجد الخطاب الإسلامي المعاصر المبرر الكافي للتنصل من المسؤولية في أي إخفاق يواجهه، وفي أزمة مصر وتونس يتمثل الإخفاق في الجوانب التالية: الأول: الإخفاق في تقييم الحدث تقييما واقعيا وموضوعيا، بعيدا عن الأهواء والمصالح وصراع المفاهيم والقيم والخلفيات، ففي كل من تونس ومصر فاجأت الأحداث الجميع، بما في ذلك التيار الإسلامي الذي لم يتوقع التغيير بالسرعة والكيفية التي تجسدت به في الواقع، ولم يهيء إطاراته ومؤسساته لمواجهة التغيير ومتطلباته الداخلية والخارجية ذلك ما يفسر اضطراب رؤية القيادة وضبابيتها وتخبطها، والإخفاق في هذا الجانب مؤشر كبير يدل على أن التيار الإسلامي لم يستكمل بعد مهمة وواجب إعداد جيل التغيير، وأنه مازال في مرحلة إدارة الصراع مع قوى الواقع وتشكيل علاقاته بها، على صعيد الممارسة الظرفية وليس على صعيد الفرز الإيديولوجي والتحديد الحاسم للحلفاء والخصوم، وقد كان من واجب القيادات، في إطار التطور والإعداد، أن تنجز واجب تقدير كل الاحتمالات وتحديد خطط مواجهتها، وما يقتضيه ذلك من وسائل وسبل ومناهج عملية ونظرية في إطار ضبط وتحديد مراحل التغيير حتى لا يضطر التيار إلى المجازفة بالمشاركة دون إعداد أو قدرة على التأثير والحسم في مصائر القضايا. ومما سبق يتبين أن قيادات التيار الإسلامي دون مستوى الأحداث وأن هذا القصور الفادح سيكلفها الكثير من الخسائر التي لا مبرر لها. قد يقول قائل: ذلك يعود إلى ما كان التيار الإسلامي يعاني منه من قمع واضطهاد، وسجون ومصادرات من قبل أنظمة الفساد والظلم، وهذا التفسير غير كاف ولا مقنع لكونه في الحقيقة مجرد تبرير للإخفاق ذلك أن السجون والمعتقلات والقمع لم يمنع الحركات الأصيلة من التطور والتصور الصحيح للأحداث بقدر ما كان حافزا لها على الفهم والتحليل والتعليل والاستنتاج الصحيح، ذلك أن توقع الأحداث قبل حدوثها أمر تقتضيه الرؤية المستقبلية والاستشراف المتبصر، ويقتضيه التخطيط الصائب النابع من مبادئ وقيم وأصول الإسلام ذاته كدين إنساني عالمي كوني، أما التسرع في المشاركة في أحداث لا ينسجم معظمها مع أهداف التيارالمشروعة، فذلك يعني أن التيار لا يمتلك رؤية خاصة به، وليس له منهج واضح في إدارة المستجدات والأحداث عامة وذلك ما يجعله مخيرا بين التورط بالمشاركة في الأحداث من غير إعداد ولا استعداد، وتحمل مسؤولية الخيار ونتائجه المتوقعة، أو مراقبة الأحداث عن كثب ريثما تتبلور معالم الواقع الجديد، وفي إطاره يتم اختيار ما يناسب التيار من المواقف والسياسات. ومما سبق يتبين أن إخفاق التيار الإسلامي نسبيا على الأقل في النموذجين التونسي والمصري أمر لا مبرر له. الثاني: الإخفاق في تقدير مقتضيات موقع القيادة في الساحة الاجتماعية بعد سقوط أنظمة الاستبداد والفساد بالصورة المفاجئة التي سبق ذكرها، ذلك أن تصدر موقع الريادة في الواقع الجديد ليس أمر مصلحة أو شهوة أو صراع الأيديولوجيات وإنما هو التقدير الموضوعي لمقتضيات الموقع ومدى أهلية التيار للتعامل مع متطلباته بكل جوانبها وأبعادها الداخلية والخارجية، ذلك أن الأنظمة المنهارة تركت وراءها تركة ثقيلة من المفاسد والمظالم والأزمات الاجتماعية وكل ذلك يضع أمام المتصور للمشهد السياسي قائمة طويلة وعريضة من المطالب والاستحقاقات العاجلة وغير القابلة للتأخير مثل: البطالة وسوء الأوضاع المعيشية لأغلب المواطنين، وكل ذلك يحتاج إلى أموال طائلة غير موجودة ولا مضمونة التحصيل، وكل ذلك يجعل تصور الموقع السياسي والاجتماعي مجازفة غير مأمونة العواقب بل وخيمة العواقب للاعتبارات التالية: أ - إن أنصار التغيير وهم الشريحة الاجتماعية الواسعة ليسوا على رأي واحد، وذلك ما يجعل الاعتماد عليهم، وحدهم، في إنجاز عملية التحول والتطور مصيره الإخفاق الحتمي. ب إن استغلال أوضاعهم وظروفهم الاقتصادية وغيرها لدفعهم إلى الانقلاب على مشروع التغيير ليس أمرا محتملا فحسب، بل هو أمر لا شك في وقوعه كما تبين ذلك مجموعة تجارب التغيير الاجتماعي عبر التاريخ، وذلك ما يجعل الإخفاق في تقدير مقتضيات موقع الصدارة مؤشرا آخر يدل على أن فصائل التيار الإسلامي لا تنظر إلى الأحداث من خلال اعتبارات القضية والواجب بقدر ما تنظر إليها من خلال اعتبارات المصلحة الجزئية والظرفية وذلك ما جعلها تجتر الإخفاقات مرة تلو الأخرى. الثالث: الإخفاق في تقدير حجم وقدرة الثورة المضادة على التأثير والحشد، لتعدد وسائلها ومصادر قوتها وسهولة اختراقها لقوى التغيير، ذلك أن الأنظمة المنهارة طيلة فترة حكمها أوجدت العديد من الشركاء والحلفاء والأعوان داخل هياكل الدولة وخارجها: إعلاميا، واقتصاديا، وسياسيا، وتجاريا بالإمكان توظيف قوتها الحلفاء بكل أنواعها، متى دعت الحاجة إلى ذلك، فقد حولت أنظمة الفساد والاستبداد العلاقات الاجتماعية عامة إلى نمط حياتي خاضع للفساد، وبذلك اكتسب الفساد مجالا اجتماعيا وفر له الغطاء وفرص النمو والانتشار وكل ذلك تحول تدريجيا إلى تيار جارف له قوة الاستقطاب والتأثير. وكان من واجب قيادات التيار الإسلامي اعتبار الملاحظات السابقة محاذير حقيقية ينبغي أخذها بعين الاعتبار حتى لا يتكرر الإخفاق مرة أخرى، ولعل ذلك يعود إلى الإفراط في تقديم ولاء الأنصار من جهة، وإلى التقليل غير المقبول من شأن وقوة الخصوم من جهة أخرى. الرابع: الإخفاق في تقدير قوى الخصوم والمنافسين، والاعتقاد بأن التغلب عليها ليس ممكنا فحسب، وإنما هو أمر حتمي وذلك مؤشر آخر يدل على أن قيادات التيار الإسلامي لم تستوعب الظرف بصورة دقيقة صحيحة، ولم تلتزم بقيم وسنن الصراع وما تقتضيه من معرفة تامة بساحة الصراع، وأطراف الصراع ووسائل كل طرف وأهدافه وموازينه، وفرص نجاحه أو إخفاقه، فكل ذلك شرط أساسي لكسب المعركة، وأي إخلال بجانب منها يؤدي حتما إلى الإخفاق والفشل. والإخفاق في النموذجين التونسي والمصري يتمثل في ما يعبر عنه خطابهم من الصدمة والتعجب مما أفرزته الأحداث من خلافات، وانقسامات حادة لكون الأحداث فاجأتهم قبل أن يستكملوا عدتهم، ووضعتهم في سياقها، وبذلك عطلت قواهم وأفقدتهم الاستقلالية الضرورية والرؤية والتقييم وقد كان بالإمكان استباق الأحداث وتقديم التنازلات اللازمة ثم استثمارها لصالحهم، فهل حدث ذلك صدفة؟. قد يكون الأمر كذلك لولا أن مؤشرات عديدة تدل على أن الأمر مدبر هدفه إيقاع الخصم في أكبر عدد ممكن من الأخطاء، وبخاصة خطأ تقدير العواقب بصورة غير صحيحة يتمثل ذلك في إغراء قيادات التيار الإسلامي بمزايا السلطة والحكم قبل استكمال بناء القاعدة الاجتماعية الصلبة باعتبارها الحضن الطبيعي لأي نظام أو سلطة، فالمجتمعات هي التي تشكل الأنظمة الملائمة لها، وليست الأنظمة التي تشكل المجتمعات إلا في الأنظمة الاستبدادية الفاسدة، والمتتبع لحركات المجتمع الإسلامي عامة يلاحظ أنها ومنذ معركتي الجمل وصفين ما تزال تعتبر أن السلطة هي الوسيلة الأساسية لتغيير الواقع الاجتماعي لذلك ركزت الحركات الإسلامية كل جهودها على موقع السلطة، وتجاهلت موقع الدعوة والتربية والثقافة والفكر مع أنها الوسيلة الفعالة لإحداث التغيير الاجتماعي اللازم لتغيير الواقع وقد تكرر هذا الإخفاق عبر التاريخ وما زال يشكل أولوية القيادات عامة. جانب آخر من الإخفاق يتمثل في عدم التمييز بين الأهداف الظرفية المرحلية، والأهداف الأساسية، ويتمثل ذلك في النموذجين التونسي والمصري في الخلط بين أهمية كسب المعركة الانتخابية، وأهمية كسب معركة التغيير والتطور الحضاري الشامل، وذلك ما جعل قيادات التيار الإسلامي في النموذجين التونسي والمصري تهدر سنن الله عز وجل في المرحلية والتطور وتقفز مباشرة إلى السلطة قبل إنجاز بناء القاعدة الاجتماعية الواسعة والعميقة والقادرة على تحمل آثار الصدمات وتجاوزها وتأمين ديمومة المد والمدد اللازم للحفاظ على القضية وحمايتها من الاختراق أو الإجهاض. في الإطار نفسه يتبين وجه آخر للإخفاق ويتمثل في عدم التمييز بين ما يمكن الاستغناء عنه وتعويضه وبين ما لا يمكن الاستغناء عنه ولا تعويضه؛ فالمصداقية الاجتماعية لا يمكن الاستغناء عنها كما لا يمكن تعويضها إذا انهارت وفي النموذجين التركي والإيراني خير مثال لذلك. الأتراك واجهوا بطش العلمانية العسكرية بالبناء الاجتماعي القاعدي الفاعل اقتصاديا واجتماعيا وفكريا ودعويا وبذلك وحده امتلكوا الأداة الناجعة والفعالة لضمان كسب معركة الصراع ضد العلمانية بعد أن جربوا أكثر من مرة وسائل الديمقراطية التقليدية من الانتخابات وغيرها ؛ حيث كان النظام دائما بالمرصاد لإحباطها واختراقها. أما البناء الاجتماعي القاعدي، فقد فشلت السلطة في اصطياده واختراقه وبذلك وحده تمكنت الحركة الإسلامية في تركيا من فرصة إفشال النظام العلماني بعد أن أفقدته الساحة الاجتماعية الواسعة التي كان يستعملها ضد مصلحتها وحقوقها. وقد اتبع الإيرانيون المنهج نفسه بعد فشل محاولات مصدق رحمه الله في خمسينات القرن الماضي، ولجأوا إلى الساحة الاجتماعية التي تمكنت من الانتصار على نظام الشاه، وبذلك حررت الإرادة الاجتماعية من قيود القهر والاستغلال. الخامس: الإخفاق في تقييم حاجة المجتمع الإسلامي، وتحديد ضروريات حياته ومصالح أجياله بعدما تبين عبر التاريخ أن الوصول إلى السلطة ليس أولوية مطلقة لكون السلطة عبر التاريخ، ومن خلال الواقع فشلت في تحقيق المصلحة الاجتماعية المتمثلة في تحقيق العدالة الاجتماعية، فشلت الانقلابات العسكرية والتيارات الإيديولوجية، والانتخابات المزورة، وظل الاستبداد والقهر والسيف هما اللذان يقرران كل شيء، ومنذ عهد بني أمية، ومما سبق يتبين أن حاجة المجتمع الإسلامي ليست في السلطة ذاتها، وإنما هي تحقيق العدل ونبذ إكراه الناس على قبول قيم وموازين ومفاهيم لا تلائم قناعاتهم ، وأن ذلك قد يحدث بغير السلطة والحكم، بل إن الوصول إلى السلطة من غير قاعدة اجتماعية عميقة واعية وواسعة قد يحول السلطة إلى مصلحة خاصة يضيع معها الواجب والقضية معا. ومما سبق يتبين أن حاجات المجتمع ليست مجرد شعار يوظف في المناسبات السياسية، وإنما هي رؤية نابعة من حاجات الإنسان الفطرية والاجتماعية وحقوقه، ومصلحة وحقوق أجياله وواجباته الفردية والأسرية والإنسانية، وذلك ما يجعل للمصلحة قيمة معيارية بواسطتها يمكن التمييز بين ثوابت القيم وعوارض الظروف، فليس من المصلحة الاجتماعية افتعال الأزمات وليس من المصلحة الاجتماعية انعدام الأمن أو الاستقرار، وليس من المصلحة الاجتماعية المشاركة في كل ما يمكن أن يعرض حقوق المجتمع أو مصالحه لأي خطر أو ضرر فكل ذلك يفقد شعار المصلحة الاجتماعية مصداقيته، وقد كان من واجب قيادات التيار الإسلامي أن تأخذ العبرة من صلح الحديبية بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين، وما قدمه النبي صلى الله عليه وسلم من تنازلات اقتضتها مصلحة الدعوة، وأمكن تبين قيمتها العظمى بعد ذلك. السادس: الإخفاق في مد جسور التعاون والتكامل والتحالف والتعايش السلمي على الأقل مع الجميع بدل الانطواء في دائرة الفصيل أو التيار أو المذهب، وهذه المعاني تقتضي الاقتناع بأن مَن ليس من التيار ليس عدوا أو نقيضا له بالضرورة؛ فبين الاحترام والتناقض مسافة شاسعة، فيها المستقل، وفيها غير المقتنع، وفيها من يمكن كسبه أو يحتمل كسبه أو تحييده، فأنماط العلاقات الفكرية والاجتماعية عديدة ومتزايدة، والعاجز هو من لا يملك القدرة على التأثير على الغير، فليس من العقل ولا من الحكمة أن تنتظر من الغير أن يطرق بابك دون حاجة، والحاجة تتوقف عليك أنت على قيمك ومفاهيمك، وسلوكك وموازينك ومصداقيتك وواقعك، لذلك يتعين اكتساب كل ما يساعد الغير على الاقتراب منك ومن ذلك: التعايش معه سلميا، وتجاوز ما يمكن أن يحدث منه من زلات وهفوات وكل ذلك يقتضيه واقع المجتمع الإسلامي المعاصر والمخترق إعلاميا وإيديولوجيا وثقافيا وأخلاقيا، وذلك ما جعله يفقد وحدة بنيته وكيانه وجره إلى واقع مفكك كل فرد فيه أمة وحده ، باستثناء قلة قليلة ما تزال في طور التشكل، وغير قادرة على تحمل أعباء وتكاليف التغيير بسبب ما خسرته من القيم والمبادئ والموازين والهمم إبان فترات حكم الظلم والاستبداد والفساد. إن الملاحظات السابقة تبين أن إعادة توحيد الكيان الاجتماعي للمجتمعات الإسلامية المعاصرة ضرورة أساسية لا يمكن الاستغناء عنها ولا تعويضها؛ خاصة بعد أن تبين أن جهد التيارات والأحزاب لم تفلح بعد في إعادة بعث وحدة الكيان الاجتماعي بعد أن كرست أنظمة الفساد الفرقة بكل أشكالها لضمان بقائها في الحكم وسيطرتها على مفاصل المجتمع والدولة. إن توحيد الكيان الاجتماعي يقتضي توحيد المفاهيم والقيم والموازين أولا وقبل كل شيء؛ لكون وحدة الكيان الاجتماعي نتيجة طبيعية لوحدة المفاهيم والقيم والموازين، ومما سبق يتبين وجه آخر لإخفاق النموذجين التونسي والمصري لكونهما اعتمدا على نخب محدودة العدد والعدة ولا تكفي لتأطير حركة التغيير المجتمعية الواسعة وما تقتضيه من عدة وعدد وبخاصة إعادة تشكيل الوعي الاجتماعي، بعد عقود وقرون من التيه الفكري والإيماني، فمن غير المنطقي انتظار دعم وتعاون من يجهل الكثير من قيم دينه وفكره، وحجة المؤامرة مجرد تبرير غير مقنع. السابع: الإخفاق في استخلاص العبر من الماضي القريب والبعيد، فقد عرفت الحركات الإسلامية العديد من الهزات والأزمات قديما وحديثا لها أسباب ومظاهر ونتائج ولها ملابسات ومفاجآت وكل ذلك ينبغي استخلاص العبر والدروس منه؛ حتى لا تتكرر الأخطاء والإخفاقات لكن ذلك لم يحدث ربما بدعوى أن لكل تجربة ظروفها وخصوصياتها، وهذا مجرد تبرير لكون قوانين الصراع وسنن التطور من ثوابت العقل وأصالة الرأي وذلك ما يجعل اجترار وتكرار الأخطاء مظهرا آخر للإخفاق غير المبرر في النموذجين التونسي والمصري. الثامن: الإخفاق في توظيف الأوراق والإمكانات المتاحة للتيار في النموذجين التونسي والمصري، يتجلى ذلك في إظهار كل الأوراق بدل الاحتفاظ ببعضها تحسبا للطوارئ بما في ذلك احتمال تغير المشهد رأسا على عقب؛ لأسباب داخلية أو خارجة أو هما معا، وكل ذلك مؤشر على أن قيادات التيار الإسلامي لم تستوعب بعد فداحة الخسائر التاريخية والمعاصرة لكونها ما تزال أسيرة التبرير وتقديس القيادات الفكرية والدعوية، وكأنها تتأسى بالملوك ورؤساء الدول الذين فرضوا الجمود والتخلف على مجتمعاتهم. هناك وجه آخر للإخفاق لا يقل غرابة عن كل ما سبق ويتمثل في عدم التمييز بين هدفي التغيير: أ التغيير الحضاري الشامل والمتمثل في إعادة تشكيل الواقع الإسلامي عامة وما يقتضيه ذلك من بناء القوة الذاتية المعنوية والمادية تفاديا للوقوع في الضرورات ومحاذيرها. ب التغيير السياسي الشكلي بمعانيه التقليدية المعروفة وبأساليبه المشوبة بالفساد وكل ذلك يطرح تساؤلا منطقيا يتعين على قيادات التيار الإسلامي الإجابة عنه وهو: ما هي قضيتهم؟ هل هي إقامة الدين؟ أم تولي السلطة؟ والذي لا شك فيه أن قيادات التيار الإسلامي عامة تعرف حق المعرفة الفرق الكبير بين الخيارين ومقتضيات ووسائل كل خيار، ونعلم علم اليقين أن الدين لا يقوم، ولا يقام بالقوانين، والأوامر الفوقية، والأساليب المشبوهة وإنما يقوم على ركيزتين أساسيتين ومتكاملتين. الأولى: ركيزة العلم والفهم، والإدراك الصحيح، وكل ذلك يقتضي توفير وسائل العلم والفهم، كما يتطلب زمنا غير مقيد بأشخاص ولا أزمنة محددة، ولا ببيئات خاصة. الثانية: ركيزة الحرية وانعدام الإكراه، والإخلاص لله عز وجل وعدم خلط مصالح الآخرة بمصالح الدنيا، ومن هذا المنظور فإن منافسة العلمانيين وغيرهم في الشأن السياسي وجه آخر للإخفاق ومما سبق يمكن تبين ما يلي : أولا: إن واجب الظرف وواجب العصر يقتضي ممن يعنيهم الشأن الإسلامي الالتزام الصادق بالاعتبارات التالية: أ نبذ التبرير والفرقة والجمود ونبذ التحزب والتسييس، والارتفاع مستوى المسؤولية العقَدية /الدينية العليا. ب التمييز بين الأهداف والمصالح الظرفية وبين الواجب والغايات الأساسية، وفي الوقت نفسه التمييز بين ما يمكن الاستغناء عنه وتعويضه في حالات حدوث مفاجآت غير متوقعة وبين ما لا يمكن الاستغناء عنه أو تعويضه. ثانيا: التمييز بوضوح وحسم وصراحة بين المصالح الجزئية للفصيل/ أو التيار عموما، وبين المصالح الكلية والأساسية لكل المسلمين. وفي حال تعارض المصلحتين واستحالة التوفيق بينهما، فبأي المصلحتين يتمسك قادة التيار الإسلامي. المصلحة الوطنية الضيقة أم المصلحة الإسلامية الإنسانية الواسعة؟. إن السطور السابقة أظهرت بوضوح لا لَبسَ فيه: أن المجتمع الإسلامي المعاصر مخير بين أمرين لا ثالث لهما: أ خيار التغيير الجذري الشامل بمقتضياته الكلية العميقة والحقيقية، بدءا بتغيير ما بالنفس ونبذ الموروث الجامد والفاسد، وكل ذلك يقتضي فهم واستيعاب مقتضيات الخيار ومتطلباته الزمنية والبشرية وغيرها، والارتفاع إلى مستواها الذي هو مستوى الآخرة الآجلة، دون ريب ولا شك، أي تحقيق الغاية الأسمى: رضوان الله تبارك وتعالى. ب خيار التعايش مع الواقع بملابساته ومحاذيره ونتائجه الطبيعية دنيا وآخرة، وسيكون ذلك أحد الإخفاقات التي لا مبرر لها لكون قيادات التيار الإسلامي عامة عاصرت وعايشت تجارب إخفاق مشاريع: النهضة والاستقلال والقومية العربية، والانقلابات العسكرية، ومشاريع الحلول المستوردة وغيرها، وكلها انطلقت من الواقع بدعوى إصلاحه وتطويره، وانتهت إلى تكريسه بمبررات شتى ينبغي لقيادات التيار الإسلامي في تونس وفي مصر، وفي كثير من الأقطار الآخرى ؛ حيث التدافع على أشده… ينبغي أخذ الملاحظات السابقة بعين الاعتبار حتى يتسنى لها إنجاز عملية الإقلاع الحقيقي في اتجاه التغيير والتجديد والإبداع الذي طال انتظاره بدلا من تكرارا الأخطاء واجترارها، وتبرير الإخفاق المرير لجهود الإصلاح طيلة عقود طويلة قاسية. فهذا هو أمل وحلم ملايين المسلمين فهل بإمكان القيادات تحقيقه؟