كم رأسا كبيرا يجب أن يصطدم بالأرض.. حتى يقتنع الحكام العرب ألا شيء يحمي الرأس كالرأس. لا الدبابة، ولا أجهزة الأمن التي لا تنام، ولا أكياس الدولارات ، ولا شراء الذمم.. ولا الجامعة العربية.. ولا الاتحاد الإفريقي.. يوفر حصانة لرأس عربي يقرر الغرب إسقاطه. ثمة فهم عربي لمدلول الرأس.. يمكن أن يفسر جزءا من المآسي التي نزلت على رؤوس العرب..وجعلت بعضها أشبه ما يكون برؤوس الشياطين. فعند البعض منهم.. يتبع الرأس الجسد وليس العكس.. فإن كان الرأس يقع تشريحيا في أعلى الجذع.. فإنه عمليا عضو لا فضل له على باقي الأعضاء.. لذا تكون القدم التي تقع أسفل منه أثمن منه أحيانا.. والرأس - بمنظور بعض الشطار - مجرد قحف يحوي مادة بيضاء.. لا وظيفة له سوى ترتيب الأوضاع الشخصية لأسياد السياسة.! أي.. كيف تصبح السلطة الحاكمة وتمسي.. وهي مطمئنة إلى أن زلزالا بقوة عشر درجات على سلم ريختر لن يهدم البيت على رأسها أو إن طوفانا -بحجم تسونامي- لن يجرف ما تكدس في ساحتها من قمامات بشرية، تفوح منها رائحة العفن أو إن إعصارا بدرجة كاترينا لن يغرقها في سيل من الأوحال، ولن يقتلع النباتات التي تتسلق ظهرها؟ *** المسافة بين العرب، وغيرهم من خلق الله.. تقاس بالسنوات الضوئية.. والفجوة الفاصلة بين الطرفين يمكن أن تستوعب الكرة الأرضية برمتها. ما يحدث.. أن غير العرب يستيقظون كل يوم على دنيا جديدة، وأفكار جديدة، وآمال جديدة.. من استنساخ الخلايا الجذعية القابلة للانقسام والتكاثر.. إلى السعي الحثيث للنزول على سطح المريخ وامتلاكه.. إلى ترسيخ الديمقراطية. في المقابل.. ينام العرب كل ليلة على تخلف جديد، وانحطاط مبتكر.. من يوم مثقل بتزوير الوقائع.. إلى غد ينذر باستنزاف الوطن. لم يعد الرأس مركزا للعمليات الفكرية.. ولا مخزنا للذكاء البشري..بل أضحى مجرد زائدة جسدية.. تنتج الشغب وتنفخ التمرد في عقول الغوغاء كما يرى الحاكم.. فيحكم بتحنيطها - أي الزائدة - وفق خلطة غريبة من كيمياء السياسة والهواجس الأمنية.. يعجز الفراعنة عن فك رموزها. *** لقد توصل الحجاج إلى هذا الاستنتاج قديما.. فهدد المعارضين لحكم بني أمية بقطف رؤوسهم.. فالرأس الذي يفكر هو ثمرة شهية في فم الحاكم.. تؤكل طازجة.. حفاظا على محتواها من الفيتامينات.. وقد يتحول إلى كأس تسكب فيها الراح للأمير المنتشي..!! كان من الوفاء للحجاج.. أن توضع حكمته في إطار ذهبي يعلق في مكتب الحاكم العربي.. ليرددها وردا صباحيا حين يستيقظ.. ويضعها تحت وسادته حين ينام كتعويذة تطرد الأشباح والكوابيس.. ويسجلها في دفتر مذكراته وصية لمن يأتي بعده. يروى في مقامات التاريخ السياسي العربي.. أن مسرور السياف.. لا يضحك إلا حين يأمره الخليفة العباسي.. بقطع رأس مارق من بني أمية..!! كان يستعذب هذه العبارة.. التي تغمره بالسرور.. كالذي كان يشعر به قتلة الحسين بن على - رضي الله عنهما -.. حين جزوا رأسه وأرسلوه إلى يزيد ليتفرج عليه..!! كانت الرؤوس تعلق على الأسوار لتشاهد من بعيد.. أو يطاف بها في الآفاق.. ليرسخ في الأذهان ما ردده أبوجهل قبل غزوة بدر.... وتسمع بنا العرب.. فلا يزالون يخافوننا. *** يبدو أن أمريكا وأوربا تتعلمان بعض الأشياء القبيحة من العربفالتخلف الذي يولد أشد أنواع الهمجية قسوة فن يكتسب بالممارسة.. وما فعلته أمريكا في"أبوغريب" لم يكن ابتكارا ينسب للمارينز مائة في المائة..لتي تظهر المارينز بكامل وقاحته وبهيميته.. تتحرك ظلال بمقاسات عربية. لقد قرأت أن عدد المنفيين العراقيين في عهد صدام حسين زاد على خمسة ملايين إنسان تشردوا في الأرض.. ويقال إن عددهم الآن يزيد على أربعة ملايين عراقي.. تقطعت بهم السبل داخل العراق وخارجه.. فما الذي تغير؟ وتأكد أيضا.. أن بعض العائدين من "غوانتانامو" أمريكا.. قد سيقوا بمجرد نزولهم من الطائرات إلى "غوانتانامو" الوطن العربي.. ليكملوا العدة هناك. الجلاد الأمريكي يتعلم -دون شك- على يد مسرور العربي.. وأمامه مشوار طويل ليتقن فن كسر العظام وتحطيم الجماجم.. وتخريب الباحات المسؤولة عن التفكير في القشرة الدماغية للإنسان العربي. *** القصة الطريفة للرؤوس العربية الكبيرة التي علقت بالصنارة الأمريكية لاتزال مفتوحة.. ولا تبدو لها نهاية في الأجل القريب على الأقل. كل الرؤوس العربية معرضة للاصطياد.. دون تمييز بين الكبيرة والصغيرة.. الثمينة وتلك التي لا تساوي شيئا. فالبحر العربي يعج بالأسماك التي تغري الصيادين بتحريك شباكهم.. خاصة وأن فيها السمك الذي يخبئ بيض الكافيار الثمين في بطنه. ألقي القبض على صدام.. وشاهدناه في حالة مزرية.. لم يرحموه.. وقاموا بشنقه.. وكنت دائما أتساءل : لماذا لم يرموه بالرصاص.. وقد قرروا إعدامه؟ لقد كان الرصاص أثمن من الرؤوس. عرفات.. لم يتعلم قواعد اللعبة مع الذئب الإسرائيلي.. فوضع مسدسه في الدرج.. وطرد السلوقي الذي كان يذود عنه...ودخل الغابة مسلحا بسلام الشجعان.. لكنه لم يعد. العربي الوحيد الذي تمكن من مقايضة رأسه بما يملك وما لا يملك.. ونجا من اللعبة بأعجوبة هو العقيد القذافي.. تنازل للأمريكان عن كل شيء..مواد وتجهيزات نووية بمئات الملايين من الدولارات.. وتعويضات لأهالي قتلى لوكربي بثلاثة مليارات.. وأخيرا سلمهم رأس المقراحي المسكين.. فعفوا عنه.. وتركوه يحكم. الآن... وقد جاء الدور على البشير.. كيف ستنتهي القصة؟ منحهم البشير جنوب السودان كاملا.. وجاء الدور على دارفور.. ويفترض من بعد دارفور أن يطالبونه بقطعة ثالثة من الكعكة السودانية الضخمة•• وهكذا إلى أن يلتهموا الكعكة برمتها. لم يتفطن السودانيون إلى أن عين الغرب.. تشبه عين الصقر.. كلما نظرت من أعلى كلما رأت أكثر. لقد رأوا السودان من الجو.. فأبصروا النيلين الأزرق والأبيض.. وأفقا لا حد له من الأراضي الزراعية البكر.. فقرروا الاستحواذ على الماء والأرض. قرأت رواية الأديب السوداني طيب صالح الشهيرة موسم الهجرة إلى الشمال في السبعينات.. ومن المفارقات أن يموت قبل أيام من صدور مذكرة اعتقال البشير.. فهل يكمل البشير ما بدأه طيب صالح.. فيهاجر إلى الشمال.. إلى حيث محكمة الجنايات الدولية.