حتى أكون واضحا وصريحا منذ البداية، أصبحت لا أميل كثيرا لمتابعة المواضيع المملة من حيث طبيعتها وحيويتها، فالمغرب العربي مثل الجامعة العربية، يمكنك أن تكرر ما قرأته أو تنسخ ما كتبته قبل عشرين أو أربعين سنة لتعيد اجتراره من جديد، فمصيبة الوحدة العربية والتكامل المغاربي أضحت من المواضيع الخطابية التي تتكرر مفرداتها مثل، وحدة الشعوب، والتاريخ المشترك والمصير الواحد والتحديات المشتركة. ورغم هذا الملل الذي كان ينتابني تجاه هذه المواضيع وجدتني مضطرا للاهتمام بالتجربة التكاملية المغاربية من خلال كتاب أهداه لي البروفيسور حسين بوقارة والموسوم بإشكاليات مسار التكامل في المغرب العربي، وكذلك من خلال المشاركة في حصة تلفزيونية بالجزائر حول الذكرى الواحدة والعشرين لميلاد الاتحاد المغاربي. والحق هنا أن كتاب البروفيسور بوقارة قد غير الكثير من قناعاتي الفكرية وقد يخرجك من النمطية الفكرية التي نحلل ونكتب بها عن التجربة المغاربية، بحيث طرح مجموعة من الخيارات لإعادة إحياء مسار التكامل المغاربي انطلاقا من التراكم النظري والمعرفي لنظريات التكامل والاندماج، فقد اقترح على صناع القرار ثلاثة خيارات لتحريك الجمود وتجاوز التوترات السياسية، الخيار الأول وهو ما سماه بنموذج البداية بالسهل الممكن، بالتركيز على العمل في المشاريع الاقتصادية التي لا تثير حساسيات وتكون لها في نفس الوقت القدرة على إشباع إحدى الحاجيات المغاربية، ولا تشترط هذه المشاريع أن تدمج فيها كل دول المغرب العربي وإنما قد تنطلق بشراكة ثنائية أو ثلاثية. أما النموذج الثاني فأطلق عليه تسمية المشاريع المدمجة، وهي تلك المشاريع الحيوية التي تعتمد على الموارد الطاقوية والمعدنية التي تزخر بها منطقة المغرب العربي لبناء قاعدة صناعية محركها الأساسي الاستثمار في مشاريع متنوعة ومدمجة تشكل سلسلة من النشاطات التي يجب أن تحرص على إنجاح كل حلقة فيها. أما النموذج الثالث فقد خصصه للاندماج الزراعي والسياحي، لتجاوز تحديات الأمن الغذائي وتحريك الاتصال من خلال السياحة والتنقلات والكتاب بحق يعد خير جليس وأنيس لكل من يهتم بالدراسات المغاربية لسهولة أسلوبه ووضوح أفكاره. أما فيما يخص اهتمامي المضطر بتحليل التجربة المغاربية بعد مرور الذكرى الواحد والعشرين على اجتماع مراكش، من خلال الانجازات والمعوقات، فقد نهتدي إلى إعادة التذكير بما أصدره بيان الأمانة العامة للاتحاد المغاربي في ذكراه العشرين (17 فيفري 2009) وهو يعدد لنا ما تم إنجازه من خطوات في مجال الإستراتيجية المغاربية للأمن الغذائي، ووضع البرنامج المغاربي لمقاومة التصحر والمحافظة على المحيط، التعاون المتقدم في مجال التعاون الصحي والبشري والنهوض بالصحة الحيوانية والنباتية، يضاف إليها ما تم إنجازه في البنية التحتية من تهيئة لعدة مقاطع من مشروع الطريق السيار المغاربية، وتشغيل الربط الهاتفي عبر كابل للألياف البصرية، مع تعزيز التعاون في مجال النقل الري والجوي والبحري والسككي، وختم البيان المغاربي بخيار التمسك بالوثيقة التي حددت الملامح الكبرى للإستراتيجية المغاربية للتنمية المشتركة، التي تدفع نحو إيجاد منطقة للتبادل الحر، بوحدة جمركية وسوق مشتركة، قد تبدأ بمشروع المؤسسة المصرفية المغاربية للاستثمار والتجارة الخارجية. إذا كانت هذه هي الانجازات على المستوى الرسمي للاتحاد المغاربي في ذكراه الواحد والعشرين فإن الرأي العام لديه رؤيته وقناعاته في تقييم هذه التجربة، فحسب دراسة ميدانية قام بها مركز الدراسات والأبحاث الدولية بفرنسا بالتنسيق مع مركز الدراسات الإستراتيجية الشاملة بالجزائر، اتضح أن 70 بالمائة من الجزائريين المستجوبين غير مرتاحين وغير راضين عن تجربة اتحاد المغرب العربي، وصورة الاتحاد ليست واضحة للكل، و69 بالمائة غير قادرين على ذكر أي إنجاز حققه الاتحاد في مساره التكاملي. ونفس الدراسة الميدانية أجريت في المغرب بالتنسيق مع مركز للدراسات المتوسطية، اتضح كذلك أن 6 بالمائة فقط من المستجوبين اقتنعوا بأن صورة الاتحاد واضحة، بينما 84 بالمائة غير قادرين على ذكر إنجاز واحد للاتحاد، و67 بالمائة غير راضين على حصيلة الاتحاد. فكيف يقتنع الرأي العام بإنجازات الاتحاد المغاربي في الوقت الذي لم يجتمع مجلس الرئاسة منذ 1994 وهو مصدر القرارات طبقا للمادة السادسة من ميثاق الاتحاد، كما أن التحديات الكثيرة لدول المغرب العربي جعلت المواطن المغاربي لا يرى أي أنجاز قد تحقق في الوقت الذي تعيش بلدانه في تبعية غذائية للخارج، الفاتورة الغذائية في الجزائر وصلت في 2009 إلى ما يقارب 6 ملايير دولار بعدما كانت قد قاربت 8 ملايير دولار في سنة ,2007 في الوقت الذي يستورد المغرب بين 40 إلى 80 بالمائة من مواده الأساسية مثل القمح، الحليب، الزيت والمنتجات الحيوانية. يضاف إلى تحديات الأمن الغذائي أن الشباب المغاربي الذي يتجمع على السواحل والمدن الكبرى بنسبة 65 بالمائة من السكان في مساحة أقل من 10 بالمائة من المساحة الإجمالية، اضطرته ظروف سوء التسيير الحكومي إلى البطالة و أزمة السكن وما ينتظر تلك الحكومات أعظم في السنوات القادمة حيث تجد نفسها مضطرة في سنة 2020 إلى إيجاد 22 مليون منصب عامل إضافي. وحتى الموارد البشرية التي تزخر بها دول المغرب العربي قد تتراجع على المدى المتوسط إذا أخذنا بعين الاعتبار تنبيهات الديمغرافيين فيما يخص السرعة في نقص الولادات، فما تحقق في فرنسا من نقص في الولادات من 6 أطفال للأسرة الواحدة إلى طفلين كان في فترة قرنين بينما يصل حاليا إلى 40 سنة فقط في بلدان المغرب العربي، وإذا استمرت أزمات البطالة والسكن فإن العزوف عن الزواج قد يتراجع أكثر مما ينعكس على الإنجاب الذي يؤدي إلى تراجع الفئة العمرية النشطة بحيث سينتقل متوسط العمر من 19 سنة في سنة 1994 إلى 31 سنة في ,2020 فالتفاؤل المفرط حاليا بوجود 40 بالمائة من سكان المغرب العربي في سن أقل من 20 سنة قد يتراجع أكثر في المدى المتوسط والبعيد، وهو ما يشكل أكبر التحديات على المدى البعيد إذا أخذنا بعين الاعتبار تراجع احتياطات الطاقة الأحفورية والاعتماد على المعرفة والموارد البشرية اللامتناهية لبناء قوة الدول ومسارها التكاملي. يبقى أن نذكر إذا كان الرأي العام في الجزائر والمغرب متشائما من التجربة التكاملية المغاربية فإن تطلعاتهم لمستقبل بناء الوحدة المغاربية يرونها أكثر من حتمية إستراتيجية بحيث طالب 70 بالمائة من المستجوبين في الجزائر بتفعيل الاتحاد المغاربي في الوقت الذي اعتبر 69 بالمائة في المغرب بأن مستقبلهم في الاندماج المغاربي لتجاوز التناقضات الاجتماعية من بطالة وفقر واللامساواة، واتفقوا جميعا في كل من الجزائر والمغرب على أن إيجاد برلمان مغاربي فعال هو الحل السياسي لتجاوز التوترات السياسية بين القادة السياسيين..لكن لنبدأ بإصلاح البيت المغاربي من الداخل من النواقص الثلاث..نقص الحرية، نقص المعرفة وتمكين المرأة..وكل عام والمغرب العربي بمليون خير..وإلى السنة القادمة.