ا لثقافة الغربية تغزو المجتمع الجزائري وتباركها الظروف المادية السيئة للشباب.. حلم ارتداء الفستان الأبيض لدى الفتاة منذ صغرها وحلم الأم في رؤية ابنتها تزف إلى بيت زوجها أصبح يتلاشى عند الكثير من الفتيات وتحول إلى شبح يطاردهن، هذا ما أكده المعهد الوطني للإحصاء الذي صرح بارتفاع نسبة الفتيات العازبات إلى ما يقارب 3 ملايين فتاة في سن الزواج سنة 2013. في تحقيق قامت به "البلاد" حاولنا معرفة السبب الحقيقي وراء هذه الظاهرة التي استفحلت في المجتمع الجزائري رغم أن العادات والتقاليد الجزائرية تمجد الزواج وتقدسه لحماية أبنائها من الوقوع فريسة الفواحش والمحرمات. طموح الفتاة أصبح يتعدى انتظار فارس الأحلام.. فالفتاة الجزائرية اليوم لم تعد تلك التي تطبخ وتغسل وتنتظر فقط اليوم الذي تزف فيه إلى بيت زوجها، فهي قد أصبحت تنافس الرجل في مناصب عدة ومجلات مختلفة، فرغبتها في تحقيق ذاتها وتحقيق طموحاتها والنجاح الذي وصلت إليه لا يجعلها تقف فقط لانتظار أي فارس يأخذها ويغدوفهي أصبحت الآن تشترط المستوى التعليمي، الاجتماعي والاقتصادي الذي يليق بها ومكانتها في المجتمع فتشرع في وضع لائحة من المتطلبات من دون نهاية ولا تقبل بمعيشة أقل من تلك التي حصلت عليها في بيت أهلها. أمال 30 سنة من الجزائر العاصمة "أنا لا أفكر في الزواج قبل 5 سنوات من الآن أتمكن خلالها من تحقيق أحلامي التي رافقتني طول حياتي منها فتح عيادة خاصة، فلا أريد أن أدفن سنوات الشقاء وتعب الدراسة بأيدي رجل قد يحرمني من تحقيق هذا الحلم خاصة أن بعض الرجال أعداء النجاح". كريمة 25 سنة طالبة بكلية الصحافة والإعلام "الزواج اليوم أصبح مشروعا يجب التخطيط له لعدة سنوات، فهو مسؤولية تلقى على عاهل الزوجين تتمثل في خلق جيل يكون سويا، لذلك أرى أن الزواج لا يجب أن يكون في سن مبكرة خاصة أن شباب اليوم أصبح هو الآخر بحاجة إلى من يهتم به ويعيد تنشئته ولا يمكنه تحمل المسؤولية في سن مبكرة". أمينة صحفية تقول إن الزواج تحول عن معناه الحقيقي وطغت عليه الغرائز والشهوات فلم يعد الهدف من الزواج هي الراحة النفسية بل حال التركيز على الغرائز دون معناه الحقيقي، تقول كريمة أنا أؤجل الزواج حتى أجد شخصا يتعامل معي كامرأة لها كيان ولها ذات ويحب روحي قبل جسدي. غلاء المهور يمنع الشباب من تطبيق نصف الدين أما ما صعب الأمر على الشباب وجعلهم يقعون في شباك العنوسة مرغمين وما جعل بعضهم يصرف النظر عن الزواج هو ما أصبح يتطلبه الزواج من مصاريف كبيرة. فغلاء الشقق وصعوبة فرشها وارتفاع المهور التي أصبحت لا تقل عن 15 مليون سنتيم وغيرها من التكاليف الأخرى التي أصبحت تشترطها البنات وعائلاتهم كأساسيات للحياة متنازلين في بعض الأحيان عن السيارة وشهر العسل، دفع بالشباب إلى تأجيل هذا المشروع وتفضيلهم حياة العزوبية تحت جناح الوالدين. حدثنا "رؤوف" عن تجربته مع فتاة تعرف عليها ولما ذهب لخطبتها وعرفت أن مرتبه كموظف أقل من مرتب أخيها الذي يعمل بناء بشركة خاصة رفضته متحججة بالتفكير والرد لاحقا. عبد الحميد 44 سنة موظف بشركة خاصة يقول إنه تعود على حياة العزوبية وهو لا يريد أن يرتبط بامرأة تسلب منه حريته خاصة أن البنات أصبح هدفهن من الزواج مادي. عز الدين 37 سنة عدم حيازته على منزل خاص منعه من الزواج أو التفكير فيه، فهو يسكن مع عائلته التي تتكون من 8 أشخاص بشقة من ثلاث غرف وهو غير مستعد لإضافة زوجة وأولاد لتتحول حياته إلى جحيم فيِؤجل هذا المشروع إلى أجل غير معلوم.. كريم مهندس في الإعلام الآلي يرى أن أحد أسباب التأخر في الزواج هو عدم نضج الشباب الحالي مقارنة بشباب الجيل الماضي حيث لا يريد الشاب أن يزيد على نفسه مسؤولية إضافية ويكون السبب الأول في ذلك عدم توفر الشغل ما يجعل التفكير في الزواج هو آخر شئ . بالإضافة إلى السنوات التي يقضيها الشاب في الدراسة وفي البحث عن العمل وبعدها واجب الخدمة الوطنية كل هذا يؤخر الزواج إلى سن الثلاثين أو ما فوق، كما أن صعوبة تكوين عائلة في الجزائر أصبح يدفع بالشباب الجزائري إلى الرغبة في الهجرة والزواج من أجنبيات تكون متطلباتهن أخف وربما من دون متطلبات ولا مهور يحصلن من خلاله على جنسية أجنبية يتمكنون من خلالها العيش بمستوى لم يوفر لهم في بلادهم . التحول الاجتماعي ساهم في ارتفاع العنوسة بالجزائر.. يرجع "حميد خليفة" دكتور وباحث في علم الاجتماع أن سبب انتشار هذه الظاهرة واستفحالها في المجتمع الجزائري هو التحول الاجتماعي الذي مس كل البنى بما فيها العائلة، حيث كان في الماضي للعائلة كبير يرجع إليه أفراد العائلة في أي قرار ويتمثل هذا الشخص في الأب أو العم أو الأخ الأكبر والذي يعود القرار إليه في الأخير وكلمته لا ترد خاصة في مسألة الزواج، إلا أن التطور الذي مس المجتمع حال دون ذلك حيث أصبح قرار الزواج فرديا واختياريا في ظل تفكك العائلات حيث أصبح المجتمع عبارة عن أسر صغيرة شبه منعزلة عن الشجرة العائلية، كما أن تطور المستوى التعليمي والمناصب التي أصبحت المرأة تبلغها في المجتمع الجزائري جعل لها وسائل تتفاوض بها في مسألة الزواج تتمثل في السيارة والمنزل فتقبل من تشاء وترفض من تشاء. كما أن العلاقات التي أصبح يمارسها الشباب والتي تروج لها وسائل الإعلام بشدة عن طريق المسلسلات خاصة التركية منها قد ينتج عنها تجارب فاشلة تؤدي بالطرفين إلى رفض الخوض في علاقة أخرى حتى ولوكانت جدية خوفا من الفشل ما يؤدي لاحقا إلى تفكيك الأخلاق وانتشار الفواحش والرذيلة في المجتمع. كما يؤكد "حميد خليفة" أن العنوسة ليست اختيارية وإنما الظروف الاجتماعية هي التي أصبحت تفرض هذه الظاهرة في ظل التوجه إلى المجتمع الحديث واندثار العادات والتقاليد والقيم الدينية نتيجة الغزو الثقافة الغربية. وتنخفض نسبة العنوسة في الريف مقارنة بالمناطق الحضرية والمدن الكبرى ويرجع ذلك حسب الدكتور حميد خليفة إلى تمسك الأسر بالناطق الريفية بالعادات والتقاليد والتي تعتبر أن المرأة خلقت من أجل الإنجاب والتربية ولا يمكن لها أن تحقق ذاتها على حساب تكوين عائلة فتغرس هذه الأفكار في أذهان الفتاة منذ نعومة أظافرها فلا تتعدى أحلامها انتظار زوج تكون معه أسرة تحقق من خلالها السعادة الأبدية. الصراعات القبلية مازالت تحول دون انصهار النسب والإعلام يخلق فوارق طبقية.. وسائل الإعلام البصرية أصبحت حطبا يوقد نيران هذه الظاهرة التي يحترق بها المجتمع فيما بعد فأصبحت تصدر لنا أفكارا وثقافة غريبة عن مجتمعنا تكرس فيه ثقافة غربية لا تمتإلى مجتمعنا ولا إلى ديننا بصلة. فإضافة إلى العلاقات الخارجة عن نطاق الشرع والتي يقيمها الشباب قبل الزواج والتي تكون نهايتها في معظم الأحيان الندم، أصبحت المسلسلات تطبع صورا في أذهان الشباب لشريك الحياة فلا تقبل الفتاة إلا بشاب وسيم يملك سيارة جميلة ومنزلا فخما ولا يقبل الشاب إلا بفتاة جميلة ذات مستوى تعليمي عال من أجل كتابة سيناريو لقصة تنتهي في معظم الأحيان بالفشل لأنها بنيت على أساس هش، كما أن الطبقية طغت على المجتمع الجزائري حيث أصبحت العائلات الغنية لا تصاهر إلا مثيلتها بينما الفقيرة تبقى تتخبط بين ارتفاع تكاليف الزواج أو تأجيله إلى أن يأتي فرج الله. الصراعات العرقية والقبلية والمواريث الثقافية هي الأخرى ساهمت في انتشار ظاهرة العنوسة في بعض المناطق، ففي غرداية أكدت مصادر خاصة ل"البلاد" أن مجموعة من النساء خرجت في مسيرة احتجاجا على التمسك بالزواج "الإندوماجي" أي الزواج الداخلي حيث ترفض العائلات تزويج بناتها لغير الغرداويين بينما للرجل الحرية في اختيار الزوجة بحكم أن المرأة تتبع عادات وتقاليد زوجها مما أدى إلى انتشار العنوسة بكثرة في تلك المنطقة بالإضافة إلى الأمراض التي يعاني منها الأولاد جراء الزواج الداخلي كالشلل ونقص البصر وغيرها من الأمراض الناتجة عن زمرة الدم للزوجين. كذلك تنتشر هذه العادات بقوة عند المرابطين بالغرب الجزائري كالشلف وعين الدفلى وخميس مليانة حيث تحرم الفتاة من تكوين أسرة في سبيل الحفاظ على صفاء النسل المرابطي الذي يعود حسبهم إلى الصفوة من الفاتحين العرب الذين رابطوا بشمال إفريقيا لنشر تعاليم الدين الإسلامي واللغة العربية. فالخوف من اندثار الموروث الثقافي يجعل العائلات ترفض انصهار النسب أو اختلاطه حتى لا يصعب توريث العادات والتقاليد للأحفاد والمحافظة عليه. اضطرابات نفسية سببها التأخر في الزواج.. ترى الطبيبة النفسانية "سميرة فريدي" أن ظاهرة العنوسة أصبحت تشكل خطرا على المجتمع الجزائري بفعل الأضرار التي تتركها في نفسية الفتاة خاصة أكثر من الشاب لا سيما نظرة المجتمع الجارحة للفتاة التي تأخرت في الزواج خاصة في مجتمعنا المتمسك بالعادات والتقاليد الذي يرى أن المرأة في الأخير ليس لها إلا بيتها وأولادها مهما بلغت من النجاح. كما ان عاطفة الأمومة تلعب دورا هاما في التأثير على نفسية المرأة وعدم التمتع بها يشعرها بنقص خاصة عند رؤية قريناتها يتمتعن بزينة الحياة. وأكثر النساء تأزما تلك اللاتي ضيعن فرصا في شبابهن جريا وراء الأوهام، ما يؤدي ببعضهن إلى إيذاء الآخرين بدافع الغيرة فيلجأن إلى السحر والشعوذة من أجل تدمير حياة الآخرين بعدما فشلن في تكوين أسرة. أميرة 40 سنة زارت العيادة بحثا عن علاج نفسي يريحها من العذاب بعدما كانت سببا في التفريق بين أختها وخطيبها بسبب الإحراج الذي كانت تشعر به بسبب إقبال أختها التي تصغرها ب 10 سنوات على الزواج بينما بقيت عانسا تواجه نظرات المجتمع القاتلة فكان الحل بالنسبة إليها هواللجوء إلى الشعوذة وإبطال الزواج لكنها لم تسلم من تأنيب الضمير كلما رأت أختها تتعذب بسبب ترك خطيبها لها مما جعلها تستنجد بالطب النفسي للتخلص من هذه العقدة. وأجزمت الطبيبة النفسانية بأن هناك حالات عديدة تتبع علاجا نفسيا كانت ضحية لجشع الوالدين خاصة الآباء منهم، حيث يرفض الأب تزويج البنت من أجل الاستفادة من الراتب الذي تتقضاه وكأنه أصبح على الأبناء تسديد دين ما هو في الحقيقة إلا فرحة قدمت لهؤلاء الآباء في زمن مضى.... التوعية والتربية الدينية تحد من العنوسة.. يحث الإسلام على الزواج وينهى عن التبتل وهو من سنن الأنبياء حيث قال الله في كتابه الحكيم "ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية" الآية 38 من سورة الرعد وقوله صلى الله عليه وسلم "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج" فالزواج هو ميثاق غليظ يهدف إلى الجمع بين الرجل والمرأة في علاقة شرعية يكون كل واحد فيهما لباسا للآخر فيستره ويعاشره بالمعروف بالإضافة إلى إنجاب الأولاد الذين هم زينة الحياة الدنيا. يرجع الإمام بن عامر بوعمرة ظاهرة العنوسة أو العزوف عن الزواج بالدرجة الأولى إلى نظام الدولة الذي يعطل الزواج بسبب غلاء المعيشة ما يجعل الشاب يصرف النظر عنه، كذلك رغبة الأب في الاطمئنان على مستقبل البنت يجعله يعطل مسألة الزواج إلى أن يتوفر عريس ميسور ماديا فيشترط مهرا مرتفعا يجعل الشاب بين نارين متجاهلين قوله صلى الله عليه وسلم " أقلهن مهورا أكثرهن بركة". كما أن الابتعاد عن الدين جعل الزواج مجرد عقد يقيهم من الوقوع في الحرام مركزين على الغرائز والشهوات متجاهلين الهدف الأساسي للزواج وهو الراحة النفسية، لذلك انتشر زواج المسيار الذي أجازه بعض العلماء وبدأ يعرف انتشارا كبيرا في الجزائر حيث تتنازل المرأة عن حقها المادي في الإنفاق ليركز الزوجان على العلاقة الجنسية فقط وإنجاب الأولاد، انتهى بالعديد منهم في المحاكم طالبين الطلاق أو الخلع لأن الزواج إذا بني على أساس مادي فغالبا ما يفشل. وفي سؤالنا عن مكمن الحل في تعدد الزوجات أجابنا السيد بن عامر بوعمرة بأنه رغم شرعيته إلا أنه مرفوض في المجتمع الجزائري رغم أنه يخفف من ظاهرة العنوسة. للتعدد أحكام وشروط يجهلها الكثير من الرجال أولها العدل بين الزوجات والذي يعد صعبا خاصة في الظروف الاقتصادية التي يعيشها الجزائري. ويرى الحل للحد من هذه الظاهرة هو تغيير النظرة إلى الزواج الذي طغت عليه المادة وذلك عن طريق التربية والتوعية وإدخال على المنظومة التربوية مادة حول الروحيات وكيفية بناء الأسرة وما هي دوافع الزواج ونتائجه على الفرد قبل المجتمع. بالإضافة إلى التوعية حول الأضرار النفسية التي تنتج عن العنوسة خاصة للمرأة ما يجعلها غير قادرة على الانسجام مع المجتمع وبالتالي لا تستطيع المساهمة في بنائه.