في خطاب مفاجئ لم يسبقه إنذار ولا إشعار ولا ”مونتاج” متلفز، وعشية ”حوام” وتحليق هيلاري كلينتون بجزائر لا تزال استثناء عصيا على ”شتاء” و”خرف” عربي علّبوه لنا في حُلّة ربيع حرر الأوطان من طغيان الحكام ليرمي بها إلى طغيان ”الرعيان”، وتزامنا مع فعاليات إحياء ذكرى تأميم المحروقات وما يعني التأميم من ”تاريخ” و من ”بومدين” أخلّ بموازين الكبار في محافل نفطهم يوم صفع الباب في وجه فرنسا غير مبال إلا بنفط ودماء الشهداء، اختار بوتفليقة دونا عن المحطات جميعها، محطة أرزيو البترولية ليقول منها مالم يقله طيلة فترة من الصمت الرسمي الذي عالج به الرئيس مصاب أمة أصيبت في مقتل حين هبت عليها على حين ”بوعزيزي” وعلى حين ثور وثورة عاصفة أكلت قبل يابسها، المتمثل في حكام ظنوا أن البقاء لهم، كل أخضرها الذي كان، والمبرر حرية، أضحت غطاءً كافيا لكي يعود الشيطان أو ”الناتو” من الباب بعدما طُرد ”مركولا” من النافذة يوم كان لليبيا عمرها ومختارها·· كما محطة أرزيو البترولية كانت رسالة وباقة ”نفط” استبقت بساعات زيارة هيلاري كلينتون إلى الجزائر وذلك في إطار جولة أمريكا بمزارعها المحررة لمعاينة رعاياها الممتنين، فإن خطاب الرئيس المباشر كان أوضح من كل ما قيل، فبالإضافة إلى مقدمته النفطية التي تمثلت في محطة أرزيو وما تعني من ”ثروات” وطنية متحرش ومتربص بها سواء على المدى القريب أو البعيد، فإن موضوعه، أي الخطاب، اختزلته عبارة: ”عفاكم الله مما هو خفي”، وهي إشارة رئاسية ناصعة المضمون ترجمتها البسيطة لمن يسمي ”الشتاء” ربيعا، أن هذه الجزائر ليست استثناء وإننا كما الآخرون مشروع ”تيه” وضياع وفوضى عارمة ما لم ترتم السلطة في أحضان شعبها فرارا من مآل أنهم بالجوار مرابطون ومتأهبون يترقبون و”يتراغبون” فرصة مواتية تحتضن أطماعهم في ”أرزيو” وحاسي مسعود وحاسي الرمل، حيث باقات ”النفط” لسان و”سنان” ربيع عربي تجاوز كل حدود السيادة وحدود العقل والمنطق، وذلك بعدما أصبحت الحرية مبررا للفوضى والتمزق والقتل المتبادل بين أبناء الدم والهم الواحد، وبالطبع فإن التجارب القريبة منا أكبر من أن تحصى أو ترسى على ليبيا منتهكة أو مصر ضائعة أو سوريا مقتتلة، والرئيس عبر خطبة ”ارزيو” المباشرة، بلّغنا وبلّغ ضيفته الأمريكية القادمة إليه من ”ربيع” تونس بأن اللعبة مكشوفة وأن ”البقاء” للوطن· أما عن الرؤوساء وخلودهم، فإن بوتفليقة عقب على ”هيلاري كلينتون” من خلال رده على صوت عامل قاطعه بقوله ”نريدك رئيسا أبدا” ليكون رد صاحب الفخامة: إن البقاء لله، وهو ما يستشف منه بأننا لسنا في بلد ولا في زمن: ”الله الجزائر وبوتفليقة وبس”·· بالنسبة للجزائر ولبوتفليقة، فإن الأمور أصبحت أكبر من أن تلبس ثوبا غير ثوبها، فما خفي كان أعظم، والرهان على برلمانيات لم تكن قبل الآن تعني إلا منشطيها، لم يعد أمرا ممكنا، فالرئيس الذي أوصل رسالة ”الله، الجزائر وبس” إلى الشعب الذي لم تجرفه عدوى الربيع، هدد وتوعد واستجدى في الجميع وطنا لا يريده أن يقع بين مصير ”ما خفي عنا وما يعلمه هو”، فالبرلمان الذي لم يدخله ”فخامته” طيلة عهداته الثلاث والذي اكتفى بالتعامل معه عبر المراسيم المتجاوزة لصلاحياته، لأنه أعلم بالوجبات والمطهيات التي جاءت به، جعل من ذات البرلمان رهان وصمام أمان لوطن لم يعد أمامه من خيار إلا الخروج من الصندوق حتى لا يفرض عليه من الخارج أن يدخل ”الصندوق” دون رجعة، فمسلمة ”الفوز” المسبق للون سياسي معين تجاوزها الزمن والوهن السياسي، والسباق الآن، لا يتعلق بمن يستحوذ على أجرة ”الثلاثين” مليون سنتيم في تبادل هدايا انتخابية بين قطاع طرق متوارثين، وإنما في من يختار المواطن ليحصن وطنا وصل إلى مفترق إما أن يكون أو ”يُكوّنه” الآخرون··· فعلى طريقة صوتكم أمانة في عنقكم، فإن ظروف ومعادلة، لكل بلد ربيعه المحترق به، دفعت النظام ممثلا في قمته إلى وضع الجميع، وطنا ومواطنا، أمام المرآة في مصارحة نادرة الحدوث للذات وللذوات، بقدر ما كشفت ”مخاوف” الرعب المرابط حوالينا”، فإنها استنفرت في كُلّ كان خارج مجال البث والتغطية والعدة نوفمبرا جديدا، لا علاقة له بالتنمية ولا بمشاريع وخيارات كبرى، وإنما بوثبة لم يعد ممكنا أن تتبناها أي سلطة مالم يكن الشعب طرفا فيها، فليس سهلا أن يوازي الرئيس بين أهمية انتخابات برلمانية، لم تكن في سابق الأوان سوى كرنفال في دشرة، وبين الفاتح نوفمبر كملحمة دفعت فيها الجزائر مليون ونصف مليون شهيد دون أن نفهم بأن في الأمر خطب جلل و”متجلي” يقارع ويقرع الأبواب والألباب، فوجه المقارنة أكبر من أن نمر عليه مرور الكرام وبوتفليقة في خطابه ”المغاير” هذا، لم يكن ينقصه إلا أن يلفظها صراحة ليستصرخ شعبه·· ووطناه· فترى هل هناك رعب وخوف وخطر أكبر من أن نعرف وعلى لسان الرئيس بشخصه ولحمه وتعبه، أن بيننا وبين ”نوفمبر” جديد، خطوة واحدة إما أن نكسبها وإلا فإن علينا انتظار قرن وثلاثين سنة أخرى حتى نكتشف أننا لم نفهم ماذا كان يقصد ”الرئيس” حين اختار محطة أرزيو النفطية ليقول لنا دون ”مونتاج”: لا تدعوا الآخرين يقررون مستقبلكم؟