ننساق في بعض الأحيان إلى أماكن لا نرغب عادة في دخولها نظرا لارتباطها بالمشاكل والتهم والجريمة ولكن هناك بعض الظروف تجبرنا على ذلك فنضطر للخضوع للضرورة وأحكامها ومن هذه الأماكن التي لا ندخلها إلا مرغمين، المحكمة أو بالعامية «دار الشرع» فمجرد أن نذكر هذا المكان حتى تأخذنا أفكارنا إلى كل ما هو سلبي خصوصا إذا دخلنا المكان وأرغمتنا الأمور على الانتظار سواء كنا في وضعية شاهد أو متهم أو فى انتظار محاكمة فرد من أقاربنا أو صديق. روبورتاج: سامية.م احتفظت بهاتف نقال فدخلت محكمة الجنايات جلبت انتباهي فتاة في مقتبل العمر تبدو قلقة مضطربة شاحبة الوجه تجلس إلى جانب والدها الذي كانت تشبهه في ملامح الوجه إلى حد بعيد كان يبدو قلقا منزعجا غير مرتاح لأمر ما، نهضت الفتاة واتجهت نحو شابين آخرين تبادلت معهما أطراف الحديث لبرهة ثم أخذت تذهب وتجيء في البهو ومن حين لآخر تنظر إلى ساعة هاتفها النقال، اقتربت منها بحذر واستفسرت عن سبب تواجدها في المحكمة فأجابت بألم «لم يأت بي الخير إلى هنا أنا في هذا المكان بسبب هاتف نقال»، واستطردت قائلة «في عمري 19 سنة لم أدخل يوما المحكمة هذه أول مرة وإن شاء الله تكون الأخيرة «، حاولت أن أستفسر عن قصة الهاتف النقال فقالت «صديق أخفى عندي هاتفا نقالا ليتضح فيما بعد أن هذا الهاتف سرقه من ضحية قتلها فهو في السجن وأنا اتهمت بإخفاء أشياء محل جناية، أنا الآن متهمة ولا أدري ما سيحكم به القاضي لا أدري من أين جاءتني هذه المصيبة ولكن بعد اليوم لن آخذ أي شيء دون أن أتأكد من مصدره، تركت الفتاة تصارع أفكارها وعقارب الساعة قبل أن تتحصل على البراءة. في مثل حالة الفتاة يكون التوتر هو سيد الموقف فدخول المحكمة لأول مرة حتى وإن كان من أجل الشهادة يعتبر مقلقا فتتبادر لأذهاننا أسئلة عديدة ماذا سأسأل؟ ماذا سأجيب؟ هل يصدقني القاضي ؟ كلها أسئلة تحير وتوتر وتسيطر على أفكارنا في الوقت نفسه ولكن ليس في كل الحالات. مراد ورياض جاءا للوقوف إلى جانب صديق العمر هو حال الصديقين «رياض» و«مراد» اللذان دخلا المحكمة لمتابعة مجريات محاكمة صديقهما المتهم بالضرب الذي أفضى إلى عاهة مستديمة، كانا يبدوان في غاية الهدوء يتبادلان أطراف الحديث والمزاح في بهو المحكمة وبينما هما كذلك حتى قدما صديقهما مكبلا بالأغلال رفقة شرطيين لم يتأثرا لمنظره وكأنهما متعودان على هذه المواقف اقتربا من الصديق ومشيا خطوات معه وكأنه يزف إلى عروسه والشرطي يبعدهما فقال أحدهما «ما تخافش خو رانا معاك رانا هنا» في حقيقة الأمر أن هيئتهم كانت تدل على أنهم منحرفين بل حتى ظننت أنهم مخدرين أومخمورين لشدة استهتارهم حاولت أن أستفسر عن سبب هدوئهما فقال «رياض» «الحبس للرجال» وهذه المواقف تعودنا عليها فكلما حدث أي مشكل فحينا نجد أنفسنا أول المتهمين» وأضاف «صديقنا كان يدافع عن نفسه فأصاب شخصا في عينه» واستطرد «صديقنا في شدة، علينا أن نقف إلى جانبه والصداقة الحقيقية في وقت الشدة تظهر»، حاولت أن أظهر أني أوافقه تماما على رأيه ليتدخل مراد قائلا «عائلته لم تحضر اليوم للمحاكمة ومثلما جئنا اليوم سنتردد عليه في السجن ونأخذ له «القفة» ونساعده على رفع معنوياته هذه هي «الرجلة» وسيجدنا يوم خروجه أمام الباب وأول المستقبلين له، كنت أتحدث إليهما وأنا أظن أني أتحدث إلى أفراد عصابة يتحدثون عن الجريمة بكل بساطة وكأنهما يتحدثان عن الحي والمنزل أو شؤون كرة القدم ومن خلال كلامهما تبين لي أنهما تعودا على المشاجرات والمشاحنات وأنواع الأسلحة البيضاء مما يبين حجم الجرائم التي تعاني منها شوارعنا وهي ظواهر أيضا تنم عن حجم الشباب الضائع في عالم الجريمة لأتفه الأسباب ربما بسبب نظرة استهزاء أو ثأر أوم قابلة في كرة القدم، وإن كانا هذين الشابين يبدوان مرتاحين نفسيا خلال تواجدهما في المحكمة لأنهما تعودا على دخولها فإن حال رجل أربعيني لم تكن كذلك. منذ سنوات وهو يزور المحكمة ومازال التوتر يسيطر عليه كان يجلس على أحد المقاعد وهو قلق والملل يسيطر عليه ومن حين لآخر يتأفف ويعبث بمفاتيح سيارته، كانت الساعة تشير إلى الثالثة وربع مساء جلست على مقربة من مقعده وترددت في سؤاله عن سبب قلقه أو بالأحرى لم أجد موضوعا مناسبا أفتتح به الحديث وبقيت أرقبه وأقرأ في محياه القلق والتذمر إلى أن سقطت من بين يديه المفاتيح فسارعت لالتقاطها من على الأرض ومنحها له فكانت فرصة لفتح باب الحوار معه فأخبرني أنه جاء إلى المحكمة بصفة شاهد في قضية مقتل أخيه في حديقة بن عكنون التي تعود وقائعها إلى عشر سنوات مضت وفي كل مرة تؤجل المحاكمة فقال «منذ التاسعة صباحا وأنا أنتظر هنا دون جدوى القضية تعود لسنوات مضت ولازالوا يستدعونني في كل مرة لتؤجل القضية»، وأضاف «لقد مللت من هذه الحال ولا أريد العودة إلى هنا، أنا منهك ومتعب وفي كل مرة آتي إلى هنا يتضاعف تعبي، من المفروض أنها هيئة تسهر على راحة المواطن وليس إنهاكه، أحضر إلى هنا متلهفا لمعرفة حيثيات مقتل أخي والحكم الذي سيطلقه القاضي إلا أن معاناة الانتظار تنسيني ما جئت لأجله وأفكر في الذهاب وعدم العودة إلى هنا» . «مريم» العروس تجد نفسها زوجة لمنحرف وإن كان جرح هذا الرجل قد اندمل بعد مرور عشر سنوات على مقتل أخيه فإن «مريم» شابة متزوجة حديثا جرحها لا يزال في بدايته، تترقب ماذا يخبئ لها القدر، كانت جالسة وهي تنتظر أن يصدر القاضي حكمه في حق زوجها المتابع قضائيا بجناية ترويج المخدرات، كانت تبدو يائسة فرائصها ترتعد وكأنها عصفور خائف من وحش كاسر كانت الدموع تنهمر من عينيها تبدو في حالة انهيار تامة مشغولة البال شاردة الدهن لا تأبه لما يحدث حولها وبينما هي كذلك حتى خرجت فتاة من قاعة المحاكمة وهي تذرف الدموع بحرقة فقالت: وهي تنهار على الكرسي المجاور «مريم لقد حكم عليه بالمؤبد لماذا يا الهي؟» فبدأت الأخرى بالصراخ وكأنها في مأتم اقتربت منها بحذر لتهدئتها، إلا أنني لم أجد خلالها كلمات مناسبة لمواساتها في هذا الموقف وربما حتى هي في ذلك الوقت لم تدرك أنها بين يدي شخص لا تعرفه ولا تربطهما أي صلة فالمهم أن تجد شخصا يواسها في محنتها ويخفف عنها آلامها فقالت بكلمات متقطعة تتخللها دموع حارقة «ماذا أفعل الآن لقد أصبحت وحيدة ، زوجي الذي كان سندي في هذه الدنيا لم أشبع حتى من وجوده إلى جانبي…» وهي تفضي لي بآلامها جاءت تلك الفتاة مرة أخرى لتخبرها أن الحكم مجرد التماس من النائب العام وليس حكما نهائيا ولازالت الفرصة قائمة لتخفيف الحكم فهدأت قليلا وجلست على ذلك المقعد الذي لم تغادره لمدة أربع ساعات وطلبت من مرافقتها أن تعود للقاعة لمتابعة مجريات المحاكمة والتفتت إلي تقول: «كنت أحاول أن أصبر زوجي وأرفع معنوياته أما الآن فلا أستطيع ذلك فان هذا الانتظار يكاد يقتلني فان مصيري ومصير ابني الوحيد سيتحدد اليوم وحياتنا ستتغير» وأضافت قائلة «أعترف أن زوجي مذنب ولكن ما ذنبنا أنا وابنه؟ ماذا سأفعل بعده؟ ماذا سأخبر ابنه عندما يكبر؟». وإن كانت الزوجة لم تستطع تحمل رؤية زوجها وهو في هذه الظروف فإن إحدى الأمهات لأحد المتهمين قصدت المحكمة صباحا لرؤية ابنها ومتابعة مجريات المحاكمة. دخلت المحكمة للاطمئنان على فلذة كبدها ما إن دخل ابنها المكبل قاعة المحاكمة حتى أخذت تناديه ودموعها تنهمر، تلوح له بيديها وترسل له قبلات جلست وهي تنظر لابنها، كنت أظن أنها أتت لرؤية ابنها فقط ولكن بمجرد أن بدأت المحاكمة حتى طلبت من المحاميتين اللتين كانتا تجلسان قبلها السكوت لتتمكن من سماع القاضي فكان بصرها وكيانها معلقين بابنها وأسماعها معلقة بالقاضي تبحث في أقواله علها تجد في كلماته ما يشفي غليلها وينقذ ابنها من السجن المؤبد لأنه منخرط مع جماعة متابعة في قضية ترويج قنطارين من المخدرات. هذه عينة لحالات انتظار ببهو مجلس قضاء الجزائر الذي يستقبل يوميا حالات مختلفة حسب القضايا ولكن الشيء المشترك بين هذه القضايا هو أن أصحابها لا يتمنون أن يقعوا في نفس الظرف مرة أخرى سواء كانت نهاية المحاكمة سعيدة أو حزينة فالمحكمة بالنسبة لهم نذير شؤم.