ارتأيت بمناسبة الاحتفاء بالذكرى الخامسة و الستين لثورة نوفمبر الخالدة التوجه إليك بهذه الرسالة لتهنئتك و في هذا المقام لا يسعنا أيضا إلا أن نجدد أسمى عبارات تقديرنا و عرفاننا لمجاهدينا البواسل. و لنقف جنبا إلى جنب وقفة إجلال و إكبار لشهدائنا الأبرار الذين صنعوا رفعة و أمجاد أمتنا و سقطوا لتقف من جديد و دفعوا بحياتهم ثمن إفتكاك حريتها و استرجاع سيادتها في تقرير و صنع مصيرها. و اليوم و أكثر من أي وقت مضى فإن ثورة نوفمبر العظيمة تفرض علينا وجهة و مراجع و منابع إلهام سخية. ففي رسالتها الراسخة و في دروسها التي تأبى الزوال يمكننا على الدوام الحصول على ما نحن في أمس الحاجة إليه من عبقرية و قوة لحماية الدولة الوطنية التي وضعتها ثورة نوفمبر بين أيدينا أمانة محفوظة و إرثا مشتركا مصونا. و بالفعل فإن بلدنا الغالي يعيش في هذه الساعات الحرجة أزمة في منتهى الدقة و الحساسية؛ فهذه الأزمة ليست بالأزمة العادية؛ و لا هي بنتاج اختلالات محدودة يهون علينا تصويبها؛ و لا هي بالأزمة الدورية كالتي تحدث من حين إلى آخر في حياة الأمم التي ليست بالحياة الهادئة و المستقرة على الدوام؛ فهذه الأزمة هي أزمة منظومة سياسية بأكملها؛ و هذه الأزمة أزمة تصور للحكم و ممارسته؛ و هي أزمة نظام حكم حرف معناه و غايته؛ و هي أزمة حوكمة أُخْضِعَتْ لأساليب بالية. فلا يمكن الاستهزاء بالمواطنة و التنكر للسيادة و اغتصاب الحقوق و الحريات و مع ذلك الجزم بأن المقصد هو تشييد جمهورية المواطنة و دولة الحق و القانون. و لا يمكن التعويل على ولاءات و زبنيات زائفة و مع ذلك التباهي بنظام ديمقراطي بالتركيز على أشكاله الخادعة و تناسي مضامينه الحقيقية؛ و لا يمكن التمسك بتصورات و ممارسات للحكم بعيدة كل البعد عن مقتضيات عصرها و مع ذلك الجزم بأن الهدف منها هو إحقاق العصرنة السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية؛ و لا يمكن السماح التجدر لتكبيل حرية المبادرة و لتوسع الزبائنية الاقتصادية و للسباق نحو الثراء غير المشروع و لاستشراء الجريمة السياسية و الاقتصادية و المالية الكبرى و مع ذلك القسم بأغلظ الإيمان أن الغاية هي بناء اقتصاد منتج و تنافسي و مبدع؛ و لا يمكن النيل من قيمة العمل و الانتقاص من ثمن الجهد و ضرب تكافؤ الفرص عرض الحائط و توسيع هوة عدم المساواة و مع ذلك التجرؤ على إيهام الناس بأن المتوخى هو بناء مجتمع متماسك و متجانس و متضامن يحصل فيه الجميع على نصيبهم من الحياة الكريمة و الشريفة التي يطمحون إليها على حق و بكل مشروعية. إن الأزمة التي يعيشها بلدنا لم تكن إطلاقا مفاجئة و غير مرتقبة؛ و لم تباغت أحدا لأنها آتية من بعيد كما كانت بوادرها الصارخة تتجلى للعيان منذ أمد ليس بالقصير؛ فهذه الأزمة نشأت و توسعت على مدى عقدين من الزمن قبل أن يسقط عنها الستار و أن تظهر في كل أبعادها الصادمة و المقلقة و المحزنة. و عليه؛ يتوجب الاعتراف لأنفسنا أن إرثا كهذا لمكلف و ثقيل؛ كما يتوجب علينا مواجهة الحقيقة كما هي و الاعتراف بأنها صعبة و مرة. إن أوقات الشدائد و الضائقات تظهر طينة الصناديد من النساء و الرجال؛ و تمكن عبقرية الشعوب من تفجير مخزونها؛ كما تمكن كبرى الأمم من رفع التحديات الأكثر ثقلا عليها. إن وقت الأزمات يرافقه دائما وقت الوفاء بالواجبات و تحمل المسؤوليات. ففي وقت كهذا يجد كل منا نفسه أمام قناعاته و ضميره؛ و في وقت كهذا لا يؤخذ في الحسبان سوى ما تقتضيه القناعات و تمليه الضمائر. ففي تطابق كامل مع قناعاتي و نزولا عند ما أملاه علي ضميري تمعنت و اتخذت قراري بالمشاركة في الرئاسيات القادمة. إن قناعاتي هي ما هي و ضميري هو ما هو و ليس لدي بديل لهم؛ فهم من جعلوا مني من أنا: و طني لا يعلو عنده شيء فوق خدمة الوطن؛ لا يخاف المسؤوليات مهما كان حجمها و ثقلها و لا يتهرب منها؛ و لا يمكن لنداء الواجب أن يتعالى إلا و يجد لديه آذانا صاغية. فمشواري خير شاهد على أنني لست رجل زمرة أو رجل منظومة أو رجل سلطة. إنني أحمل الحس بالصالح العام في أعماقي؛ و أضع خدمة الدولة في قمة سلم القيم؛ و لا معنى للسلطة بالنسبة لي إذا وضعت في خدمة تصور و مشروع للبلد و في مسؤوليات يتم الاضطلاع بها على نحو يقنع الشعب و يرضيه؛ فلهذه الأرض المقدسة حقوق على كل واحدة من بناتها و على كل واحد من أبنائها أينما وجدوا و مهما كانت طريقة تعبيرهم لحبهم لها؛ أنا إبن من أبناء هذه الأرض و إخلاصي و وفائي و ولائي لها كاملا غير مبتورا. إن قرار مشاركتي في الرئاسيات القادمة قد أخذ في الحسبان – كل الحسبان- معاينتين اثنتين و هما اللتان أزالتا من ذهني كل الاعتبارات الأخرى: المعاينة الأولى هي أن البلد قد دخل منطقة كل الأخطار و أن الواجب – كل الواجب- يكمن في إخراجه منها؛ و المعاينة الثانية هي أن البلد قد أصبح حبيس دوامة مخاطر جمة يتوجب إيقافها مهما كلف ذلك من جهود و تضحيات. إن هاتين المعاينتين دامغتين في تقديري و هما من رجح الكف لمشاركتي في الرئاسيات الآتية لأنني أعتبر أن شعبنا لا يملك أثمن أو أنفس من الدولة الوطنية التي وُضِعَتْ على عاتقنا حمايتها و الدفاع عنها و ضمان ديمومتها. صحيح أن الرئاسيات القادمة لا تحضي بظروف مثالية؛ لكنه يمكن لإجرائها أن يكون مقبولا إذا تم في كنف النزاهة و الشفافية و النقاوة و الحياد؛ فقناعتي كاملة بأن ما تم من تنازلات لتسهيل إجراء هذا الاقتراع لن يذهب سدى و أنه لا ينتقص من أهلية الرئاسيات القادمة لتشكيل نقطة انطلاق حقيقية للتحول النوعي الذي يطالب به شعبنا و ينتظره بلدنا. فوضع البلد لا يسمح بالتردد أو التقاعس؛ و الساعة ليست للحساب أو التكتكة أو المناورة؛ و لا يوجد واجب أكبر أو مسؤولية أثقل من مد يد مِعْوَانَة لوطن في خطر. فترشحي للرئاسيات القادمة هو أصلا إصغاء لهذا النداء و استجابة له إلى جانب كل من يؤمنون بمشروع عصرنة البلد سياسيا و اقتصاديا و اجتماعيا و كل من قرروا الالتفاف حوله. إن الرئاسيات القادمة ليست البتة غاية في حد ذاتها؛ فعلة وجودها تكمن في انقاد البلد من منطقة الأخطار؛ و لها وجهة و هي وجهة التاريخ المتمثلة في بناء صرح جمهورية المواطنة و دولة الحق و القانون؛ و لها غاية و هي الشروع في بناء دولة وطنية عصرية متناغمة مع محيطها و مع عصرها. و من هذا المنظور فإن الرئاسيات ليست سوى بداية مشوار طويل و شاق. فهناك نموذج سياسي و نموذج اقتصادي و نموذج اجتماعي يتوجب ابتكارهم و تجسيدهم في الواقع الجديد للبلد. إن تطلعات شعبنا تطلعات ضاغطة و طموحاته طموحات مشروعة؛ و البلد قد سجل من التأخرات و عانى من الإرجاءات ما لا يسمح بتأجيل، مرة أخرى، مشروع التحول و التغيير الذي ارتقى إلى مصف الأولوية الحيوية للوطن. و عليه فإنني سأذهب في الأيام القليلة القادمة إلى ملاقاة مواطناتنا و مواطنينا بمشروع استعجال وطني في يدي لأن بلدنا في مواجهة مباشرة مع استعجال سياسي و استعجال اقتصادي و استعجال اجتماعي يتوجب التكفل بهم و معالجتهم دون تأخير. إنني أتصور برنامج الاستعجال الوطني هذا في سياق المطالب العادلة و المشروعة للثورة الديمقراطية السلمية المتمحورة حول بناء جمهورية المواطنة و دولة الحق و القانون؛ كما أتصور برنامج الاستعجال الوطني هذا كسباق ضد الساعة يجب علينا الفوز به بإعادة قواها و هيبتها و وقارها للدولة الوطنية من خلال مؤسسات شرعية من القمة إلى القاعدة و بإحتواء الانهيار الاقتصادي و بوضع حد للتقهقر الاجتماعي و بتعبئة شعبنا حول مشروع وطني يلمس فيه تجسيدا وفيا لطموحاته و تطلعاته و آماله. و برنامج الاستعجال الوطني هذا أتصوره أخيرا كأولويات وطنية مطلقة ذات طابع سياسي و اقتصادي و اجتماعي نتحاور و نتفاتح و نتصارح و نتوافق بشأنها بغية الوصول إلى أوسع تعبئة حولها لما تقتضيه من جهود و تضحيات متقاسمة بعدل و إنصاف. إن التاريخ يعلمنا أن ساعة التحولات المفصالية تملي على الأمم وحدة الصف و تجاوز الخلافات الثنائية و الالتفاف حول مشروع وطني جامع يدفع بسيرها إلى الأمام. لا يمكن للتحول الكبير أن يحدث دون تجمع كبير. فبرنامج الاستعجال الوطني الذي أعرضه على شعبنا لا يعني رجلا وحده مهما كانت شرعيته؛ و لا يعني حزبا وحده مهما كانت سعة قاعدته السياسية و الاجتماعية؛ و لا يعني أغلبية سياسية وحدها مهما كان ثقلها في المشهد السياسي الوطني. فتحدي التعبئة و التجمع هو أكبر تحدي يواجهها شعبنا راهنا. إن غاية برنامج الاستعجال الوطني لا تكمن فقط في التصدي لما هو ضاغط و عاجل؛ و هذا البرنامج لا يكتفي بتشخيص مخرج من الأزمة؛ لكنه يهدف لما هو أوسع و أبعد؛ فهو يفتح آفاق مستقبلية و يعرض طموحات جامعة على البلد. إن شرف خدمة شعبه شرف و امتياز لا يكسبهما سوى من هو أهل بهما؛ و عليه سأذهب إلى ملاقاة شعبنا لنيل ثقته و في يدي رسالتين: رسالة صراحة يملي مضمونها علي واجب قول الحقيقة بشأن الوضع الصعب للبلد. و رسالة أمل في قدراتنا الجماعية على الصمود و التصدي و رفع أكبر التحديات إن واجهناها صفا واحدا عازما متراصا. إن صفحة واعدة ناصعة من تاريخ أمتنا تكتب في هذه الأثناء؛ و علينا أن نقوم نحن بإملاء ما ستسجله لنا أو علينا.