يظلّ يرتّل الشاعر خالد بن صالح مقطوعةً بسدول تفتح نواقيسها الخضراء على درب جذور في ليالٍ تعبق القصيدة بمخيلتها وأسئلتها الثكلى تحت النار، من مشيئة توقظ لون الريح باتجاه الأغصان السرمدية المترجمة شجونها إلى الغناء أينما أسدلت البحار حقولها وخضرة زرقتها بين الأنوار، ومن رفرفات تفرش للبحث ساعته، فبعد أن عانقه شوق "سعال ملائكة متعبين" تعوّد العناق والقبل الحارّة مع حروف مدوّرة فلم ينعطف كثيرا عن البيت وابتعد مسافة"مائة وعشرون مترا عن البيت"،التقيته عبر أثير الشبكة فكان لي معه هذا البوح الجميل حاورته : شيماء درويش خالد ما لا شك فيه، أن الأماكن الأولى للشاعر تنقش في أحاسيسه مذاقًا خاصًّا، فماذا نقشت مدينتك (الديس) في ذاتك وفي قصيدتك؟ "الديس" هي مدينة الطفولة، بداية التسكع بين الكتب القليلة، الحاراتُ التي لم تستأذن بياض اللوحة واحتلت مكاناً في القلب قبل أن أرسمها بالألوان والرمل .. الوجوه التي لفحتها شمسُ أيام جميلة وأخرى مؤلمة، وكثيرها متشابهة .. الديس هي بوابة الفنِ الصغيرة، جمعية آفاق والأصدقاء، الكتب المهربة تحت الملابس، ماركس وابن عربي والسياب، الأغنياتُ التي نبتت من تراب الأرض، الجبال الحجرية وصعود القمم المخيفة .. مذاقُ الحرية مع نفس السيجارة الأول والنقاشات المفتوحة على كل شيء .. القبلة الأولى وما تصنع ابتسامةٌ عابرة بفتى آمنَ أنَّ الأفق خطٌّ رفيع يُرسم باليد التي تخدش جدران العالم.. حقيقة لم أتخيَّل أنّ ذاك الأعسر سيقلق كل هذا الصمت بلوحات وكتب وصوتٍ يسافر كل يوم عبر أمواج الأثير .. ما فاتحة النص الذي ورّطك في عالم الكتابة؟ نص بعنوان : ثرثرة هذه فاتحته: كلام كظل هزيل يزرع حروفه في جسد الدهشة يتفاقم فوق بياض لا منته مشكلا في الغياب . . صورة مانحا لخواء القلب . . حلما أشبه بامرأة. لو قدر لك أن تعيد تشكيل حياتك الشعرية, هل كنت ستعدل بعضها أم تلغيها تماما ؟ التعديل أو إلغاء ما يشكل حياة شعرية سابقة، قصيرة كانت أم طويلة .. ليس من هواجسي أبداً لأنني أعتقد أن تلك النصوص غير المكتملة الملامح، وحتى القصائد التي ندمتُ على نشرها، تشكل جزءًا من حياتي الشعرية كما قلتِ، ولعلني مثلما تجرأت على حرق لوحاتي، أعدمت الكثير من القصائد والنصوص التي لم ترَ النور .. أما عن التعديل فالكثير من النصوص التي غادرت مجموعتي، خاصة الثانية بعدما شرعت في تعديلها، وأحسستُ في الأخير أنني شوهتها دون أن أضيف شيئاً .. أكيد أنا مع الاشتغال الجيد على النص، مع تشذيبه، وتنقية لغته من الشوائب ولكن قبل أن يقرر الشاعر نشرها سواء إلكترونيا أو ورقيا. الإذاعة.. لماذا اخترت اختراق الإذاعة ،أم أن الصّوت كان حكاية حبّ أخرى لاعبت أسماع المتذوّقين، قبل أن يأسرهم حرفك المدوّر؟ أظنُّ أن الإذاعة اختارتني ووقعتُ في حبها بعد ذلك، لم أكن يوماً أحلم بمهنة الصحفي، رغم أن علاماتٍ كثيرة كانت توحي بذلك منذ الصغر. لكنني طالما تجاهلتها .. العمل الإذاعي اليوم يشكل لي بعداً إنسانياً جديدا في الحياة. بكل آلامها وآمالها، في اقترابٍ حقيقي من هموم وطموحات المواطن المحلي .. وبهذه المناسبة تحية محبة لكل زملاء العمل بإذاعة المسيلة، وإلى المستمعين أينما كانوا .. صوتي يتجول اليوم بين البرامج الإخبارية والأدبية والروبورتاجات ونشرات الأخبار على أمل تقديم الجيد والمفيد دائماً، ولعله، صوتي، ما زال في طريق البحث عن بحةٍ تأسر أسماع المتذوقين ... أينما كان الحديث مع شاعر، اقترن بالحرية فحدثنا عنها يا خالد.. "الحرية فانية بامتياز" كما يقول الفيلسوف إميل سيوران ولعلها لم توجد أصلا إلا لتضيع أو تُفتقد وانطلاقا من هذا المنحى أميل إلى استغلالها بأجمل الصور، بل وأكثرها تطرفاً في كل ما يمنح الحياة صفة الجمال، لأفتح ما بوسعي من نوافذ، وأستنشق ما أستطيع من أوكسجين وأتجرعها على دفعات بين ثنايا النصوص وخارجها .. لا أريد أن أدخل في مجالات أخرى لست بصدد التنظير لها، ولكننا بعيدون كأفراد ومجتمعات عربية عن المفهوم الحقيقي للحرية، كمعطى إنساني نجدُ ملامحه الأولى في الأسرة، قبل أن نتحدث عن مجال الكتابة الذي يحرر العقول والوجدان من أغلال الرجعية والتخلف والأفكار المسبقة ومشاعر الحقد والكره والإقصاء. هل تعتقد أن من خصوصيات الشعر أن يبقى وفيا للوجدان؟ ليس بالضرورة، لأنها لحظاتٌ آنية، إنما الشعر عندي يبقى وفياً للهامش، للعابر، للمختلف، للتجريب المقلق، وفيا لانكساراته وتصدعاته وفنائه في هذا الزمن الرديء .. مثلاً: يستطيع الشعر أن يخرج بسروال ممزق عند الركبتين، يدخن سيجارة مرمية على الأرض، يدندن كلمات أغنية بذيئة، يمشي تحت المطر في ليل بارد، وينام عندما يتعب بجنب قطة مبللة بالقرب من حاوية في آخر الشارع. ولكنه يصحو جميلاً في الصباح، لأنه البارحة كان كذلك وقبلها وفي قادم الأيام .. ماذا تقول ؟ كخيول جريحة.. بأصابعي رغم الدماء قدرة على الصهيل قصيدة فاسدة.. لا تتراجعي عن هذه الصفة أجنحة إوزّة بلاستيكية .. انتهى درس الكاماسوترا الطريق إلى الحاوية .. إياكِ من تحول الحاء هاءً في يوم البوعزيزي .. صرخة متأخرة جداً لمن اعترف خالد في نهاية أمتاره؟ لأحلامه .. لامرأة بعيدة .. قريبة .. لعالمٍ غبيٍّ لا يطاق خالد،البانيو البيبسي وغيرها من الحروف الحياتية التي وضعتها إكسسوارا لمشاعرك المنقولة عبر كلماتك..لماذا؟ لا جواب لسؤال لماذا؟ لأنها أشياء حياتية .. ليست كلمات مقحمة أو ما شابه .. إنما عناصر أساسية في النص الأصلي، في لحظة الكتابة الطازجة، حبلُ وصل باليومي، لا حبل انتحار في اللغة الغامضة، الشائكة، المبهمة، الصارخة .. نستطيع بهدوء أن نقتل، مثلما نستطيع بنفس الهدوء تقبيل امرأة نائمة.. كأي مبدع جزائري ،جرّبت توقيع أمتارك مؤخرا في معرض الكتاب الدولي،هل تعتقد أن توقيع العمل من المبدع نفسه إضافة له؟ فرصة توقيع إصدار جديد، أقولها وأكررها، ليست صفقة تجارية بقدر ما هي لحظة لقاء الكاتب بالقارئ، سواء كان قارئا صديقا، أو قريبا أو حتى محتملاً يصنع فجأة الحدث .. يمكن للكاتب أن يلتقي قارئا عاديا مثلما يمكنه أن يتعرف على آخر متميز وهكذا .. تنشأ صداقات وتبادل آراء وأجواء خاصة جداً وهو ما كان بتوقيع كتابي الجديد "مائة وعشرون متراً عن البيت" بجناح الاختلاف بالمعرض الدولي للكتاب هذه السنة. مالذي يشكّله لك الزّمن كبعد شعري ووجودي؟ شعرياً الزمن هو بالنسبة لي إعادة تركيب جديدة، مختلفة لإيقاع الواقع والحياة، بين المطلق والقصير جداً والفاني .. لحظة انخطاف صوفيّ أو لحظة تمدد عقلي .. أساسها القصيدة بكل مكوناتها، بذاتيتها الشعرية النقية.. وجودياً لا يعني سوى نقطة ما هنا ونقطة ما هناك .. وما بينهما من نقاط أيضاً .. هل تسعى إلى كتابة نص مفتوح؟؟ لا أسعى بقدر ما أحاولُ الاستجابة بمتعة ومسؤولية لغواية الرواية التي تختلف عن الكتابة الشعرية وان تضمنت بعض أنفاسها .. لا أظنني سأقاوم كثيراً فبعد ديوانين، "سعال ملائكة متعبين" و"مائة وعشرون متراً عن البيت"، أعتقد أن العنوان الثالث المختفي في مكان ما هنا أو بين القصائد سيكون عنوانَ روايتي الأولى .. الشاعر المبدع خالد بن صالح سعدت بمحاورتك،نلتقي على حرف وإبداع آخر.. شكرا لكِ سيّدتي على هذه الأسئلة المتميزة وعلى استضافتي بالجريدة.نلتقي.