ما لا يعرفه الآخرون للمواسم بحضورك أيها الغائب الحاضر عبق الحبق ونوار اللوز وأنت تشرع قلب الربيع، شهر مارس، بطريقتك الخاصة وطقوسك التي لا يعرف أسرارها سواك. كيف جمعت كل دموعنا بمائها وملحها ورمادها وجمرها وحدك وخبأتها لمواسم القحط والسنين العجاف، كما يوسف خدعوك، عادوا بالقميص المضمخ بالدم وأتلفوا طريق الجب، وربما مشوا حتى في الجنازة وهم يهتفون اذكروا موتاكم بخير. كم كان رمضان تلك الليلة قاسيا ومرا مثل الحنظل على خالتي زيدة وعلى رجاء ورحاب ومالك وكمال وأخواتك وأحبتك ومعجبيك وعشاقك.. و.. و.... كم يتمت من الأمكنة ومن الناس؟؟؟ من يملأ مكانك في مقهى المسرح؟؟؟ ومن ينادي القهواجي بنبرتك الطيبة واللطيفة وبإشارة ممسرحة من يدك،،؟؟؟ ومن يخبئ في جيبه شيئا من كرمك وسخائك في هدوء وسكينة؟؟؟ كنت كبيرا وسامقا على كل شوارع وهران و حاراتها.. كنت منغرسا في كل ركن من بيوتها وحتى في أكواخها الرطبة النائمة في الحواف المهملة والمنسية، فمن جعل وهران كل وهران تفرغ من ناسها؟؟؟حتى يتمكن منك القتلة وأعداء الحياة، كل الحياة. حملت قامتك ولغاتك وموسيقاك وألحانك المعلنة والخفية؛ زادك الوافر الغزير والكثيف لتفكيك شيفرات النور المبهم لمن كانوا بانتظارك في دار الثقافة ذات خميس حزين، لم يغب عن القتلة المتربصين بكل ما هو جميل أن يسجلوا الدقيقة والثانية ويرسموا جغرافيا وهندسة المكان، ويحددوا بدقة العارفين الطريق والمسار. كم كنت كثرة أيها الواحد والوحيد، نسجت حبلك السري، غزلته بعمق خالتي زوبيدة وبكل ما سكنها من حكايا ومن حكمة ومن غنى روحي، الحبل السري الذي لم ينقطع ولن ينقطع خلقت منه شعوبا وقبائل وقلت لهم تعارفوا بالمسرح وفي المسرح وفي قلب وحنايا المسرح، تعارفوا بلغاته وبجمالياته وبكل ما يحمل من رسائل ومن قيم إنسانية نبيلة. أيها الغالي على القلب إن تكلمنا عن المسرح فأنت سيده ومولاه بامتياز، وإن تكلمنا عمن صدح ويصدح في الركح كان صوتك ولا زال هو الأعلى والأسمى والأرفع، وإن تكلمنا عن النص المسرحي، ليس هناك من حاور اللغات ومعظم ما كتب وقيل من مسرح أكثر منك ليخلق لغته التي لم تكن فقط حروفا ووقفات ونبرات ونقاط وفواصل أو أبجديات بكماء صماء، بل كانت اللغة راقصة بالي بين يديك تراقصها وتحضنها كما تعشق وتشتهي وسوبرانو ترتج الأرض لصداها وتفتح لصوتها أبواب السماء، وريشة فنان أسطوري يغمس الكون في ألوان قوس قزح وهو يشبكها على هواه. كنت تقول لا بد للغة والموسيقى والألوان أن ينبتوا للفرح أجنحة، ليحمل الحياة مثل البراق يجوب بها العالم والكون، ليبرعم دوما ما هو أجمل وما هو أرقى وما هو أروع وتكون حرية القول والفعل هي الأسمى. كنت تقول الحزن فينا ومنا ولنا لكن لا يجب أن يتحول يأسا وعدمية وظلمة وخرابا. ولأن النبل منبتك والعقل خيمتك ومأواك والحكمة منهجك كنت دائماً تفكر في الآخرين أكثر من نفسك بل كنت تنسى نفسك من أجلهم، وأطفال مرضى السرطان الذين كانوا ينادونك LE GRAND TANTON لم ينسوا لا طيبتك ولا تفانيك من أجل أن يكونوا في أحسن حال فرحاً وصحة وأكلا وشربا وابتهاجا بالحياة وهم يرقبونك في المطبخ والميزان بين يديك، تزن مع الطباخة المجاهدة الأكل والفواكه وحتى الحلويات الطيبة والمتنوعة التي كانت تصنعها خالتي زوبيدة بنشوة وفرح وحب ومتعة، حتى لا يكون هناك ظلم ولا تفاوت وحتى يأكلوا من كل ما يجب أكله من أجل حمايتهم من فقر الدم وهشاشة العظام. الشيء الأكبر الذي كنت تمنحه دون قياس ودون ميزان ودون حساب للتخفيف من ألمهم ومن شوقهم إلى بيوتهم وأهلهم ومدرستهم حنانك وحبك وعطفك وتفانيك من أجلهم، حتى تلك السلاحف الصغيرة التي كنت تجمعها من الطريق برفقة نجاة وأنت ذاهب إلى مركز مسرقين لتغرس الفرح في عيونهم كبرت ونمت وتنامت وتكاثرت وكتبت اسمك ونقشته في قلب الريح المشبعة بأنفاسك الطيبة. ولأنك المتواضع والبسيط بامتياز ولأن نظرتك كانت دائماً بعيدة متأنية، راصدة وبدقة للمستقبل وخباياه لم تكن لتتأخر في الأيام الخطيرة والصعبة عن أي اجتماع أو لقاء مهم يمكنه أن يضيف شيئا إيجابيا لما كنا نصبو إليه من مشروع مجتمعي وثقافي متنور ومنفتح على العالم، كنت تأتي من وهران إلى العاصمة لاجتماعاتنا في المجلس الأعلى للثقافة الذي كان يرأسه المبدع المرحوم عبد الحميد بن هدوقة، بسيارتك "الكاتريل" 4L, ترفض بطاقة الطائرة وترفض حجز غرفة بفندق، ولما تسأل، تجيب، ما هي هذه الميزانية الخارقة المخصصة للثقافة التي تسمح ببطاقة طائرة وغرفة فندق، ليس من حقنا أن ننتزع منها ولا فلسا، لما هو عبارة عن كماليات وطمع مرات في نظري، هذا رأيي ويخصني وحدي طبعا، ليس من حقنا نحن على الأقل أن نحفر فجوة جديدة في ميزانية الثقافة التي هي أضعف الميزانيات على الإطلاق. كان النقاش يومها قويا وغنيا بحضور الفنان الجميل المرحوم محمد خدة والشهيد أحمد أصلاح الذي اغتالته يد الغدر خمسة أيام فقط قبل اغتيالك. اجتماع تلته اجتماعات أخرى مكثفة بالتنسيق مع وزارة التربية. كان العمل جادا من أجل إدراج مادة الفنون بكل أنواعها في كل الأطوار التعليمية مقتنعين أن الفن يعطي الأمل في الحياة والحق في الحلم والتشبع بالألوان يساهم في خلق عوالم أخرى متنوعة ومتعددة، وإلا كيف نساهم في تغيير الذهنيات وزرع المحبة والسخاء. ونختم الجلسة بلمسة من لمساتك المسرحية الجميلة "بصح يا الخاوا لازم تكون الكرش شبعانة حتى تقول للراس غني