على هامش فعاليات المهرجان الثقافي المحلي الموسيقي و الأغنية الوهرانية و مساهمة منا سنفتح دفاتر الذاكرة لنخوض كل يوم في شخصيات عظيمة قدمت الكثير للأغنية الوهرانية و تركت بصماتها بارزة و أسست مدرسة تتبع خطاها الأجيال التي أحبت التراث و ساهمت في تطويره و الحفاظ عليه و من بين الفنانين الذين وضعوا حجر الأساس المرحوم أحمد وهبي هذا الكروان الذي غادر الحياة ذات يوم 28 اكتوبر 1993 إثر مرض عضال . كان الرحيل مؤلما ورهيبا حين فقدت وهران صوتها الأصيل عنوان الطرب الممتد إلى جذور الأصالة والتراث العريق هناك من حيث استسقى الراحل وارتوى ليطفئ ظمأ الفن الجزائري، ويحلق إلى أبعد من سماه فكان على طول الدرب البلبل الصداح الذي لا يزال يحيي في الذاكرة رغم مرور 18 سنة على الرحيل تاركا فراغا كبيرا لن يعوض لأن ظاهرة مثل وهبي لن تتكرر كونه حنجرة نادرة صنعت مجد الأغنية الجزائرية الأصيلة وخلفت المدرسة التي لا تزال تنتج أصواتا وهبية ورغم غياب الأستاذ تبقى الأجيال تحفظ ما توارثته من المدرسة. ومن مسيرة عملاق الأغنية الوهرانية التي سجلت في التاريخ بكثير من المثابرة والمغامرة منذ أول خطوة في طريق الفن الطويل . و لقد ولد الفنان الراحل أحمد وهبي واسمه الحقيقي أحمد دريش التيجاني يوم 18 نوفمبر 1921 بمرسيليا بفرنسا من أب جزائري وأم فرنسية من أصول إيطالية، فقد المرحوم والدته وهو رضيعا ابن الأشهر الأربعة. احتضنه بيت جدّه حيث نشأ وتربى هو وأخته في كنف الحي العريق المدينةالجديدةبوهران، هذه المنطقة التي شهدت صبى العملاق الذي ولد عملاقا ومات عملاقا، كان والده مؤذنا بإحدى مساجد الباهية وكان لصوته تأثيرا كبيرا على وهبي الطفل الذي فطم على التميز والهدوء والرزانة وما كان ذلك إلا تكوينا صحيحا لفنان كبير لم يكن يخطر ببال أحد . بداية اهتمام المرحوم أحمد وهبي بالموسيقى كانت ضمن صفوف الكشافة الإسلامية الجزائرية فرع النجاح الذي أسس بوهران سنة 1937 حيث كان عضوا فيها إلى جانب الفنانين الراحل حمو بوتليليس وقادة مازوني، هناك أدى الأناشيد الوطنية، وبدأ يشق طريقه بصبر وثبات نحو التألق معتمدا منذ البداية على الأصل وهو الشعر الملحون. التحق سنة 1947 بمعهد الموسيقى في باريس وهناك تشبّع بروائع الموسيقى العالمية ونمى طاقته وموهبته الفنية، قبلها سنة 1942 شارك في الغناء مع الفرقة التي كان يقودها الفنان بلاوي الهواري بأغنية »ناداني قلبي« للموسيقار محمد عبد الوهاب وبدأ يواصل طريق الغناء مع المرحوم عبد القادر الخالدي الذي إلتقاه في نهاية الأربعينيات وأصبح كاتب كلماته الأول وهكذا دخل الفنان إلى عالم الاحترافية ليصبح الصوت الجزائري المتميز دون أي منازع حيث ذاع صيته إلى أبعد الحدود وسرق كل الأضواء بجملة أغانيه الطربية الرائعة. وهران، وهران... رحت خسارة جاءت انطلاقته الفعلية في مجال الطرب والتلحين مع أول أسطوانة سجلها من تلحينه بعنوان »كروان الليل« سنة 1949 هناك ظهرت عبقريته الفنية وتواصلت بجملة من المحطات المهنية التي ميّزت حياة النجم. بعدها جاءت الأغنية الشهيرة التي أعادتها ولا تزال تعيدها الكثير من الأصوات الشابة»وهران ... وهران« التي سجلت مع شركة وهران، الأغنية يقص فيها تجربة أبيه مع الغربة بتفاصيل تأثر بها كل مغترب ولا تزال الأغنية تلقى نفس الصدى الذي لقته في الخمسينيات في هذه الفترة حيث لحن المرحوم أجمل أعماله على الإطلاق مثل »علاش تلوموني« و»يا طويل الرڤبة« و»الغزال« وهذا بالتعامل مع الفنان الراحل عبد القادر الخالدي الذي أمده بأجمل نصوصه التي بقيت تخلد كل من العملاقين. أعماله القيمة سمحت لوهبي أن يكون عميدا للأغنية الوهرانية التي تميزت بغناء نصوص شعراء الملحون بألحان مطعمة بجمل من ألحان الموسيقى العربية الشرقية بصوت قراري قوي شد اهتمام كبار الفنانين العرب لأن أحمد وهبي حمل طابعا فريدا ووضع بصمته الخاصة وزادت شهرته باسمه الفني الذي اختاره نظرا لإعجابه الكبير وحبّه تقليد الفنان محمد عبد الوهاب فأختار اسم »وهبي« نسبه إلى عبد الوهاب بدل دريش اللقب الأصلي، ليصنف نفسه واحد من أهم مطربي الأغنية الجزائرية الطربية وساهم في تطوير الأغنية الوهرانية وخرج بها من المحلية نحو النجاح والعالمية . غنى الفنان الراحل أحمد وهبي للحب والحياة والوطن استطاع بكل إحترافية أن يوظف أغانيه في النضال الوطني من خلال رائعة »طويل الرڤبة« التي جاءت بملامح سياسية حاول بها بالكلمات وكذا الألحان والأداء القوي أن يلفت انتباه أولئك الذين انقسموا في كؤوس الخمر مستهترين بأوضاع البلاد وسلوكات المستعمر وكان ذلك إبان الثورة التحريرية، وقدم بعدها عشرات الأغاني الوطنية النابعة من عمق وطنيته وروحه الثورية المناضلة مع العلم أن الفنان شارك في الحرب العالمية الثانية ضمن الجبهة التونسية وهناك بتونس شكل فرقة جبهة التحرير الوطنية التي كانت تقدم الأغاني الثورية والتراثية الجزائرية من أجل تعريف العالم وتحسسيه بالقضية الجزائرية. وجاء سنة 1954 أيضا بقنبلة فنية أخرى تفجّرت عن كارثة زلزال مدينة الأصنام الشلف حاليا إذ عاد بأغنية »الأصنامية« بروعة في الأداء وصف بها تفاصيل الكارثة بريتم هادئ ومدوي في نفس الوقت وكانت تلك ميزة هذا العملاق الذي يتفجر في هدوئه وتصيب أغانيه القلوب كالأسهم التي بقدر ما تجرح تداوي فعمق صوته ودقة معانيه وطريقه أدائه لروائعه جعلت منه حديث العصر ولا يزال الحديث الذي لا ينتهي لأنه ببساطة عنوانا لوهران، هو في الواقع والخيال ثالث أسودها سهر بطريقته الفنية وبجديته ووطنيته على إحياء أصالتها وترسيخ قواعد مدرسة قائمة بذاتها سماها الأجيال المدرسة الوهبية ما زال كل غيور على الأغنية الوهرانية الأصيلة. جذور الأصالة بعد الاستقلال استقر أحمد وهبي بمدينة وهران حيث كان يدرس الموسيقى ويقود فرقة الإذاعة مع الفنان القدير بلاوي الهواري، ولم يغادر المرحوم الباهية إلا مرتين الأولى بين 1965 و1967 نحو فرنسا، أما الثانية فكانت بين 1969 و1971 قاصدا المغرب بعدها بقي بموطنه الأصلي وعمل في ميدان الموسيقى بالمسرح الجهوي عبد القادر علولة أنجز عدد كبير من الأغاني الرائعة منها الأغاني الاجتماعية والوطنية والعاطفية هذه التي وصف فيها مغامرات مثيرة، غنى للشاعر الشهير مصطفى بن إبراهيم، والشاعر الكبير الراحل عبد القادر الخالدي وغيرهما، لذلك جاءت كل أغانيه مفعمة بالحياة ومنكهة بروح الأصالة والكلمة الشعبية ذات المعاني والأحكام الدقيقة. من ضمن أغانيه التي فاقت شهرتها كل التوقعات أغنية »يا شهلة لعيون« »سرج يا فارس اللطام« و»ما اطول دالليل كي طوال« و»يامينة« و»يا طويل الرڤبة« و»علاش تلوموني« التي أعادها ملك الراي الشاب خالد بطريقة إبداعية متجددة، كما أعاد عدد من الفنانين أغانيه الراسخة في العقول، وكان وهبي البذرة التي لا تزال تعطي ثمارها ولا تزال وهران تنجب خيرة الفنانين الذين اختاروا السير على درب الراحل منهم الفنان معطي الحاج، سيد أحمد قوطاي، و اخرين . رحل الأستاذ وبقيت المدرسة وهكذا غادر الفارس تاركا خلفه إرثا فنيا ضخما وعريقا لن يمحوه الزمان من ذاكرة وهران والجزائر كيف ذلك ولا تزال حوافز خطاه بشوارع المدينةالجديدة و الطحطاحة ومسرح علولة ومحطة الإذاعة والتلفزيون الجزائري اللذان لا يزالان يحفظان أروع وأثمن أغانيه في أرشيفهما . فن العملاق كان يعكس شخصيته وإنسانيته فيتحدث عنه من عرفوه أو سمعوا عنه الكثير خاصة في آخر سنوات حياته أين كان يميزه الإصرار على المواصلة حتى مع تقدمه في السن عمل دائما من أجل تثبيت أركان مدرسته، وما بقى من مقربيه صور ومشاهد لا تزال راسخة هي صورته وهو يعانق لفافة السيجارة التي لم تفارقه هي الأخرى حتى لازم الفراش . ويحفظ أرشيف التلفزيون الجزائري فيلما مصورا في حوار خاص أجراه أحد الصحفيين مع المطرب الراحل في آخر أيامه تكلم فيه الفنان عن مواضيع كثيرة، وقد قصص من حياته لدى الراحل العديد من الحوارات والصور والمقالات فاقت 600 صورة ومقال، ويجدر الذكر أن المرحوم شغل عدة مناصب منها الأمين العام للإتحاد الوطني للفنانين الجزائريين مواصلا مسيرته في التلحين والغناء إلى أن أصيب بمرض عضال ألزمه الفراش ووافته المنية يوم 28أكتوبر 1993 ووري الثرى بمقبرة سيدي يحيى ببئر مراد رايس بالجزائر العاصمة، وكان رحيله فاجعة كبرى بفقدان أحد روائع الطرب الوهراني هرم من أهرامات الفن الأصيل على الإطلاق. فوهبي المدرسة في كل أغنية من أغانيه درس تكويني في قواعد الموسيقى والأداء والتربية الفنية وكل تفاصيل الطرب الملتزم والهادئ، فصاحب الصوت القراري هذا لن يتكرر أبدا لأن ما حمله من ميزات فنية استدعت التحليل والدراسة وكانت النتائج ألا أحد بعد وهبي كما أن لا أحد قبله وكل المحاولات لن تصل إلى مستواه وقوته وإن تميزت وتألقت ولا ننكر أن هناك أصوات رائعة تحذو خطى الراحل طاقات بعض تفاصيله ومواصفاته، ولكن كل السر كان في الصوت والأداء. فسلام على روحك يا كروان وهران فبفضل المهرجان الخاص بالأغنية الوهرانية سيعيش صوتك و فنك للأبد لان الجيل سيحمي الإرث الذي تركته أنت و من كان معك في نفس فترتك و من جاء من بعدك لن تبرح وهران أبدا لأن مدرستك ستعيش مع أصوات تنطلق من المهرجان لترفف عاليا في سماء الأغنية الوهرانية .