ارتبط اسم مولاي النّاجم أم الغيث – رحمه الله – في مخيال الذاكرة الشعبية الأدرارية الحديثة؛ بمفهومي المقامرة والمغامرة، وقد تشكّل عنه هذا الانطباع العام، مع البدايات الأولى لمجيء فكرة الاستثمار الفلاحي بولاية أدرار، منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، ومنه انتقل هذا الصيت المدوي لهذه الشخصية الأسطورية، ليبلغ صداه وطنيا، ويمتدّ مداه إفريقيا وعربيا، حتى عُدّت تجربته الفلاحية، من التجارب المرجعية في هذا الميدان، فإن سُئلت عن مولاي النّاجم، فلا تتردّد في القول؛ بإنه الامتلاء ضد الخواء في كل شيء وكفى.. امتلاء في العقل، والعمل، والمغامرة، والسخاء، مع بسطة في الروح والجسم. أذكر فيما بقي من فتات ذاكرتي بقصرنا الطيني، الذي يبعد عن مسقط رأس مولاي النّاجم حوالي 5كلم، وقد كنتُ يومها زمن الطفولة الناهضة، التي تبدأ علاماتها باخضرار منبت شعر الشارب، مع ما يمكن أن يصاحب ذلك، من إرهاصات البلوغ، كاخششان الصوت، وبداية بروز بلحة الحنجرة. فمنذ ذلك الوقت، تناهى إلى سمعنا من حلقات أرباب قصرنا الطيني وعجائزه، ذكر اسم مولاي النّاجم، والذي كان يجري على ألسنتهم، كجريان أساطيرهم ومستعجبات أخيلتهم. كنا نلحظتلك الدهشة على وجوههم، ونلمس الغرابة فيمجالسهم، نظرا لما أقدم عليه هذا الرجل المغوار، من أمر جلل، لم يسبقهإليه أحد من الأولين، أو ممّن عاصره من أهل ساكنة توات الوسطى وتيدكلتوقورارة قاطبة. وقد تبدو هذه الدهشة والغرابة طبيعية ومنطقية، إذا اعتبرنا السياق التاريخي لتلك الفترة بالمنطقة، حيث كانت البساتين المسقية بماء الفقّارات، أحد المقدسات الاجتماعية، نظير ما نهضت به هذه الأخيرة وترسّب في أذهان الناس، منكونها سببا فيبقاء الإنسان واستقراره بالمنطقة منذ اختطاطها وعمارتها المبكرة. وحسب شهادة الميلاد التي عثرنا عليها بيد ابنه (السي حمو)، يكون المرحوم مولاي النّاجم، قد وُلد سنة 1938م بقصر (تيدماين) نواحي أنزجمير (ولاية أدرار)، من أسرة شريفة، يذكر أترابه الذين عايشوه بالقصر، كالمقاول الحاج أمبارك بلبالي، أنه تربّى على المغامرة منذ صغره، حيث خرج من القصر قاصدا العمل، وهو ابن 13 سنة، فسافر لعديد المدن، ليستقر به الحال نواحي حاسي مسعود، فعمل مدّة معتبرة بالشركات البترولية، ليعود بعدها لمسقط رأسه، فأسّس مقاولة أعمال حفر الآبار، كما مارس تجارة المقايضة نحو مالي والنيجر، ليختار بعدها مدينة رقان مستقرا، ففتح بها مقاولة أشغال البناء بداية الثمانينيات، وكانت مقاولته يومئذ، من المقاولات القليلةالرائدة بالولاية، كمقاولة السي موسى وأقاسم وغيرها، فيسّر الله له، ما شاء أن ييسّر له، من أسباب الرزق وأبواب الفتح. لم يكن سهلا على المرء يومها، أن يكسر تفكيرا نمطيا سائدا، كأن يكون الناس يغرّبون للبساتين، فيختار عكس ذلك التفكير الجمعي للساكنة، فيشرّق لوحده، نحو أرض القفار، والحمادة الموحشة، كلها عرضة لمخالب الرياح والعواصف، فيقامر بماله، ويغامر بحياته في ذلك الخلاء المخيف..فاستغرب الناس الأمر استغرابا كبيرا، حتى ظن المرجفون بالقصور الطينية المجاورة؛ أنه الجنون المهذّب، ولعل أقلّ ما أقدّر هذا الاستعجاب، كاستغرابهم لو طلعت عليهم الشمس من وكر مغربها، ولم يكن من اليسير فعل ذلك، لولا ثقة الرجل بنفسه، ورؤيته الاستشرافية الثاقبة. لقد رمى الرجل بكل ما يملك، في استصلاح تلك الصحراء القاحلة، فبدأ بداية برصف الجريد اليابس، واستعماله كواق من الرياح، والذي يعرف في لهجتنا المحلية ب(أفراق)، فلم يبخل عليه أهل قصورنا، نظيركرمه وبسطة روحه، فأمدوه بالجريد اليابس، لإقامته ذلك السياج. بعدها بدأنا نسمع استخدامه للرش المحوري وسقيه لمد البصر، وكذا نصب البيوت البلاستيكية، بعد شهور من هذا النبأ، بدأ القوّالونالفضوليون بالقصر، يروون لنا روايات مدهشة، عن تلك الأعداد الغفيرة، من البيوت البلاستيكية، التي تثمر ثمرا ليس في وقته، كما كانوا يعدّدون لنا، تلك المساحات الشاسعة والواسعة من القمح المرشوش بالرّش المحوري، وكنا نتخيل شساعةذلك القمح المزروع في أذهاننا فقط، لأن أكثر ما وقع عليه بصرنا، وانتهى إليه سمعنا، هو تلك المساحات التقليدية المحدودة، من القمح بواحات قصورنا، المسقية بماء الفقّارة، والتي تسمى في لهجتنا المحلية ب(القمون) و(القرضة) و(السريحة). سار بي الحال والزمان منتصف الثمانينيات، حتى دخلت الجامعة، وهناك تصادقت مع ابن عمه وصهره، مولاي أمبارك - رحمه الله - فتكوّنت لي مع المرحوم الأخير، صداقة وطيدة، فكان هذا الأخير، الساعد الأيمن لمولاي النّاجم خلال تلك البدايات الوعرة، وكثيرا ما كان صديقنا مولاي أمبارك، ينظّم لنا مأدبة دسمة في أيام العطل، نحن خلانه الأصفياء؛كالرقراقي محمد البوعلاوي، ومولاي لكبير بن مولاي السعيد الأظواوي، والمرحوم الحاج الصديق عبد الكريم البوحامدي، فيدعونا لمأدبة الطنجية الدسمة، التي كان يقيمها لنا بالاستصلاح، خلال تلك العطل الجامعية.وهناك تعرّفت عن قرب، على شخصية مولاي النّاجم، فكان يعاشرنا وكأنه شاب مثلنا، فيطرد عنّا بفكاهة حديثه، وحسن انتقاء تنكيته، ما قد يلتصق بنا من حياء الصغار لوقار الكبار، وكان لافتا لي من أحاديثه تلك، ما كان يقصّه علينا، من أخبار تجاربه ومغامراته البطولية في الحياة، معطرا حديثه بابتساماتعفوية، في غير تصنّع.لقد كانت المستثمرة الفلاحية لمولاي النّاجم ولازلت محج زوار الولاية، من الوفود الرسمية وغير الرسمية، كما أنها تعتبر ورشة تطبيقية أنموذجية، لطلاب الفلاحة ومهندسيها من الجامعات والمراكز المهنية المتخصصة.. لتنتهي حياة هذا الرجل المقدام الحافلة بالإنجازات يوم 17/12/2013 بالمستشفى العسكري بعين النعجة، عن عمر يناهز 75 سنة، نُقل جثمانه بعدها لمسقط رأسه قصر تيدماين، حيث مرقده الأخير، في جنازة مهيبة ومشهودة. وتقديرا لجهوده وعرفانا لتجربته في استصلاح الأراضي، كرّمه رئيس الجمهورية السيد عبدالعزيز بوتفليقة، في الذكرى الأربعين للاستقلال بوسام الشرف. يمكن اعتبار مولاي النّاجم - رحمه الله -ظاهرة أسطوريةقد لا تتكرّر، في حب الأرض وخدمتها -على الأقل بناحيتنا -كما يصلح الرجل لأن يكون أنموذجا، في ركوب المغامرة والعمل.. نَمْ هنيئا يا مولاي النّاجم في رقدتك، سيذكرك التاريخ بمغامراتك، وسخائك، وإنسانيتك؛ لأنكببساطة، كنت قريبا من المساكين.