قد تزداد الصورة وضوحا، إذا التفتنا إلى جانب آخر من شخصية الكاتب. وعلمنا أن الكتابة لم تكن "حرفة" ، وإنما كانت سلوكا وأخلاقا قبل أن تكون خطا بالقلم. وكأن الكتابة لا ترضى أن تكون ذلك الفعل البسيط الآلي، بل تسعى إلى أن تُلبس صاحبها ثوبا يكسوه من أمّ رأسه إلى أخمص قدميه. إنها إسباغ لا يتناول المخبر وحده، بل يتعداه إلى المظهر، فيكون الكاتب كاتبا بجملته: «داخليا وخارجيا». وكأن الكتابة شارة ونصبة، يتميز صاحبها عن غيره من الناس : ملوكا وعامة. فقد قال"إبراهيم بن محمد الكاتب" : «من كمال آل الكتابة أن يكون الكاتب نقي الملبس، نظيف المجلس، ظاهر المروءة، عطر الرائحة، دقيق الذهن، صادق الحس، حسن البيان، رقيق حواشي اللسان، حلو الإشارة، مليح العبارة، لطيف المسالك، مستقر التركيب.« فإذا كانت الكتابة أخلاقا وتهذيبا، فإنها تتجاوز هذا الشرط إلى المظهر تتفقد الملبس، لتجعله نقيا عطرا، يختلف عن لباس العامة من أهل الحِرَف. فشرف الكتابة يقتضي الزي الذي يعطيها حقها في الدرجة والمكانة، ويجعل الكاتب "هيئة" متميزة بين الناس، يتفرد بالثوب، والرائحة الزكية. ففيه وبه تعتمل الأفكار الرشيقة اللطيفة، وتخرج في ثوب من اللفظ يشاكل الثوب الذي يرتديه مديرها. وكأن نقاء هذه من ذاك، وعطر هذا من تلك، ينبئ المظهر منه عن المخبر منها. وقد نجد في الأوصاف الأخرى ما يخول لنا قراءة معانيها الحافة التي يمكن نقل ظاهرها إلى ما يستفاد منها دلالة. ف "نظافة المجلس" لا تنصرف فقط إلى النظافة الحسية وحسب، بل نقرأ فيها أخلاق البطانة التي يجالسها الكاتب، والمواقف التي يقفها في معاشه اليومي، إذ الكاتب غير النديم الذي يبتذل أخلاقه من أجل إرضاء نزوات الأمير الليلية، فيدوس الأخلاق من أجل اللطافة التي خُصَّ بها الندمان . بل الكاتب موقوف على تسجيل شوارد الفكر، وجواهر الخاطر، وليس يشين موقفه ذاك سوى المجلس الرديء، والرفيق السوء. ذلك ما جعل "إبراهيم الكاتب" يعطف على عبارته الأولى، عبارة "ظاهر المروءة" وكأنها شرط المجلس النظيف وعمدته. ومما نعجب له حقا أن يمتد الوصف إلى صفات ليس للكاتب فيها حيلة، ولا يملك لها دفعا، لأنها صفات فيه خلقةً. يقول "إبراهيم الكاتب" :» .. ولا يكون مع ذلك فضفاض الجثة، متفاوت الأجزاء، طويل اللحية، عظيم الهامة. فإنهم زعموا أن هذه الصورة لا يليق بصاحبها الذكاء والفطنة. وأنشد سعيد بن حميد في إبراهيم بن العباس: رأيت لهازم الكتاب خفت ولهزمتاك شأنهما الفدامه و كتاب الملوك لهم بيان= كمثل الدر قد رصفوا نظامه وأنت إذا نطقت كأن بعيرا = يلوك بما يفوه به لجامه. « فإذا كان الملوك يتخيرون من الناس أناسا يروق منظرهم لمجالسهم، فذلك أمر قد نجد له ما يبرره في أبهتهم، ولكنه لا يجوز لنا أن نقصر شرف الكتابة على من رزق مثل هذه الصفات وحده، وأن نجعلها وقفا عليه، ونحرم منها البقية الباقية ممن لم يكن له حظ الوسامة! ولكن شروط المتقدمين تجعل مثل هذا الشرط إضافة في شرف الكتابة ومكانتها. ألم يجعلها بعضهم أشرف مراتب الدنيا بعد الخلافة ؟ فقد قال "المؤيد" : «..والكتابة أشرف مراتب الدنيا بعد الخلافة، وهي صناعة تحتاج إلى آلات كثيرة» وقالسهل بن هارون" : الكتابة أول زينة الدنيا، وإليها يتناهى الفضل، وعندها تقف الرغبة.« وكأني باستقامة الخلقة، وتجانسها، كمال يلحق الكتابة قبل أن يلحق صاحبها. والوجه الحسن أدعى إلى تمثيل أمارات الفطنة والذكاء، من الوجه الأربد، المتغضن، العبوس. وكثيرا ما يكون الوجه الحسن رسول صاحبه، يقضي حوائجه قبل أي جارحة أخرىK وفي قول "إبراهيم الكاتب" سمة أخرى، حين جعل للكتبة عشيرة تختص بها، ويكتمل لهم الشرف بها، حين قال: من كمال آل الكتابة.« وكأنهم طبقة خاصة من الناس، يتميزون عن غيرهم بالصفات المذكورة ظاهرا وباطنا. فآل الكتابة موصوفون بدقة الذهن، وصدق الحس، وحسن البيان، ورقة الحواشي، وحلو الإشارة، ومليح العبارة، ولطف المسالك، ومستقر التركيب.. وإذا أنت بحثت عن هذه الخلال في الناس لما وجدت لها من تمثيل إلاّ عند آحاد منهم، وكأن الكتابة تتخير منهم ما يوافق نهجها، و يأتلف مع مسلكها، فهي تأبى أن تكون أداة في يد الغلف منهم، الفظ الغليظ، البليد العيي. أما إذا راقبنا أحوال الكتاب اليوم، بدا البون شاسعا بين هذه الصورة الزاهية، الجميلة، وما نصادفه عند الكتاب شرقا وغربا من سوء المظهر والمخبر: من شعث في الصورة، ونكد في السريرة. وكأن الكاتب اليوم وهو يهمل الهندام والقسمات، يهمل من طرف خفي الأخلاق والسلوك. بل أضحت الخمرة، والمخذر عونا على الإبداع، وأي إبداع ! الإبداع الذي يسل سخيمة صدر معلول، وقلب مشحون بالضغناء والحقد على النفس والناس. وما التلفّع بالغموض، والإيغال في متاهات الأحاسيس الشاذة، وورود مكارع المجون والخلاعة، إلاّ من إملاء المظهر والمخبر. حتى غدا إتراع الكتاب بالفسوق والمجون عنوانا على الشأو البعيد في الإبداع. وقد ترفّع الأقدمون عن إيراد لفظ – في مكاتباتهم – سبق وأن شاع في الاستعمال بما يرفضه العرف، وتأباه الأخلاق . فما بالك ببسط عورات الناس، وفضح سرائر ربّات الخدور! وقد امتد الاعتداد بالمظاهر الحسنة من الهيئة العامة للكاتب، إلى هيئة المكتوب ذاته. فقد روى "إبراهيم الشيباني" في شأن الخط قولا أحسبه عنوان فن جليل يلحق الكتابة، فيضفي عليها من رونقه هالة من الفخامة و الشرف ما يجعلها بحق "أشرف مراتب الدنيا". فهو في حديثه عما ينبغي للكاتب أن يأخذ به نفسه، يؤكد على :» حسن الخط، الذي هو لسان اليد، وبهجة الضمير، وسفير العقل، ووحي الفكرة، وسلاح المعرفة، وأنس الإخوان عند الفرقة، ومحادثهم على بعد المسافة، ومستودع السر، وديوان الأمور«.وكأن ما يشمل الذات الكاتبة من محاسن لابد له أن يؤول في نهاية المطاف إلى المكتوب، تحمل منه الكتابة الحظ الذي يعطيها المظهر الحسن، حتى يتجانس المظهر والمخبر في حلة قشيبة واحدة رائقة. وكأن الطهر آية في كل ما يتصل بالكتبة من قريب أو بعيد. بل تراه لا يقنع بما قدم من أوصاف استوفت حظ الخط،ويذهب يسائل أهل "الصناعة" عنه مستزيدا، وكأنه يجد في ما قدم تقصيرا، وإقلالا. فيضيف قائلا: - ولست أجد لحسن الخط حدا أقف عليه أكثر من قول "علي بن برن النصراني" فإني سألته، واستوصفته الخط، فقال: أعلمك الخط في كلمة واحدة. فقلت له: تفضل بذلك. فقال: لا تكتب حرفا حتى تستفرغ مجهودك في كتابة الحرف، وتجعل من نفسك أنك لا تكتب غيره، حتى تعجز عنه. ثم تنتقل إلى ما بعده.. واعلم أن محل القلم كمحل الرمح من الفارس.« وليس بعد هذا الحرص من حرص على سلامة الخط وجودته. وكأن المكتوب إذا استوفى حسن الخط كان بحق خير لسان، وأبين جنان، يسر الخاطر إذا تملاّه، يقدم له مادة الكتابة بيّنة جلية، لا يشوشها خلط، ولا تشطيب. تقفز كلماتها إلى العين سافرة من غير إمعان نظر، ولا تطويل تحديق. فهي تلامس العين ملامسة الشيء الجميل، لا رهق فيها ولا عنت. بل تدعو إلى الاستزادة في القراءة. ولذلك كان الخط سفيرا للعقل، ووحيا للفكرة، وأنسا عند الفرقة. وكأنه يستحضر صورة صاحبه، زيا وعطرا، ليملأ بها حضرة القارئ، فيسمع من مكاتبه مناجاته وإسراره. وقد رأينا اليوم من كتابتُهُ – مع علو درجته العلمية – وكأنها عراك مع الحرف، قبل أن تكون عراكا مع الفكرة. فإذا بوجه الورقة ميدانا يكشف عن إرهاق وشقاق، ينبئ فيها "طغيان القلم" عن طغيان الثورات التي تجتاح النفس أثناء الكتابة، يلقي بها صاحبها جانبا غير راض، يأكله الامتعاض، وتذهب به الحيرة مذاهبها، فإن هو عاد ثانية يقرأ ما كتب حذف أكثره. يغير هنا كلمة، ويشطب على أخرى. أو يمزق الورقة ليعيد الكرة، وقد علت النفس سحابة من التكدّر والضّجر، فينقلب سحر ما أراده أولا إبداعا، إلى شيء نُكُر، لا يحمل رسالة "الكتابة" بقدر ما يحمل عذابات الروح وهي تضطرب في قفص الجسد المحموم.