وجدت هذا المقطع للممثل محفوظ لقرون، الذي أدّى بطولة إحدى المسرحيات، كفيلا بتعويض عشرات الأحكام والقراءات، وهو مقطع عميق في بساطته، وكاف للتدليل على قضايا جوهرية تخص كاتب ياسين ومنجزه: «أثارت محمد خذ حقيبتك جدلا كبيرا بين رجالات الدين والسياسة والفكر الذين لم يكونوا يدركون تمام الإدراك ما كان يقوله ياسين، حتى وإن كان من البديع البسيط الناطق بلغة القوم الذين لا يقرأون»، أمَا الروائي رشيد بوجدرة فيضيف شيئا غاية في الأهمية والوضوح كتتويج لتجربته الطويلة: «مشكلة كاتب ياسين أنه كان محاطا بأشخاص دون مستواه، والبعض استغل بساطته وتواضعه وخجله». هذان الرأيان قريبان إلى الحقيقة، وهما كفيلان بإعادة النظر في الصورة الخاطئة التي التصقت بهذا الكاتب، من «نجمة»، إلى «الرجل ذو الصندل المطاطي» و«حرب الألفي سنة» و«فلسطين المخدوعة» و«غبرة الفهامة»، وغيرها من الأعمال التي لم تُقرأ، أو قرئت بإفراط في الذاتية، وأوّلت عشرات المرات بأشكال عجيبة، مقصرة أو مغالية، ومتعمدة القراءة الخاطئة. فسّر العلمانيون والإسلاميون أعمالا أدبية ومسرحية لم يعرفوها، ولو حدث أن اطلعوا على «محمد خذ حقيبتك»، نصا وعرضا، لما وصلوا إلى تلك الأحكام الدالة على جهل واضح. أمّا كيف وقع المرحوم محمد الغزالي في لعبة هؤلاء فتلك مشكلة أخرى لآثار السند، الشيء ذاته ينسحب على الدكتور محمد علي الفرا والقيادي في جماعة الشرق الإسلامية، وغيرهم من السياسيين والمثقفين. المسرحية منعت بدائرة الحراش، كما حوصرت في قسنطينة، وقيل آنذاك إنها ألهبت فتيل الصحوة. في حين هلل الشيوعيون لها وأعلنوا انتصارهم على المحافظين، وكذلك فعل دعاة الحداثة قبل مشاهدتها. أمّا الذين كانوا يحيطون به فكانوا ذبابا، وهم الذين سوّقوا لجزء من هذه الصورة المعتمة التي جعلت الكاتب شخصا آخر غير الذي كأنه في واقع الأمر، إن نحن استثنينا قلة قليلة من هؤلاء الذين كتبوا بروية وموضوعية، وبمسؤولية تاريخية ربطت الكتابات والتصريحات بالمقام، ودون تلفيق. كما أنّ جلّ ما قيل عن بقية أعماله لم ينطلق من النصوص كقيمة أدبية، إنَما من مواقف متوارثة استثمرها اليمين واليسار والعلمانيون والإسلاميون والدهماء، مستغلين السياقات والتقاليد الشفهية التي تهيمن على شكل تعاملنا مع الثقافة والأدب. لم تعد المسألة إذن متعلقة بالفهم، بل بمشكلة التلقي في حدّ ذاته. الناس الذين لا يقرأون النصوص ولا يشاهدون العروض قاموا بتفسير وتأويل منجز سردي ومسرحي لا علاقة لهم به أساسا، كما يحصل في الجامعة وفي المقاهي والمسارح الغارقة في الفتاوى العامة. حدث أن قمت، قبل سنين، باستبيان شمل آلاف الطلبة والأساتذة من جامعات وطنية، ومن عدة مستويات. أمّا النتيجة فكانت صادمة: لم أجد في ألف طالب طالبا واحدا قرأ لكاتب ياسين، وهناك من لا يعرفون عناوين مؤلفاته، باستثناء نجمة التي تمّ فهمها خطأ، أو بتقويل الكاتب ما لم يقله. وما ينطبق على هؤلاء ينسحب على الآخرين.الشيء ذاته يحدث حاليا في الملتقيات التي تعنى بالكاتب، خاصة بعض الندوات التي يحشد لها جهابذة الأيديولوجيات من منتجي الخطابات التي لا ضوابط أكاديمية لها: وهي عبارة عن أحكام جاهزة تحتاج إلى منهجية وأخلاق علمية، وليس إلى شعارات ورثناها انطلاقا من ثقافة سمعية بحاجة إلى مراجعة وتقويض. لماذا حصرنا كاتب ياسين في اللغة والدين وأسسنا على بعض تصريحاته الظرفية في اتخاذ مواقف من أديب مختلف تماما عن الصورة التي شكلناها عنه؟ يقول الأستاذ عبد العزيز بوباكير في مقال توضيحي: «تصريحات كاتب ياسين المدوية وانفعالاته العنيفة وأمزجته الحادة دفعت الرئيس هواري بومدين ذات يوم إلى القول: «من الأفضل لياسين أن يكتب ويصمت، فهو لا يحسن الحديث»... «لا يحسن الحديث بالفعل، لكنه كان بسيطا في حياته، عفويا في سلوكه، كريما في طبعه». ويمكن أن أضيف بأنه كان بسيطا وزاهدا، يقرأ ابن عربي والأمير عبد القادر ولا يميل إلى الذين يستغلون الدين والأيديولوجيات لمآرب خاصة. لكنّ الذين كانوا يحيطون به، وخدمة لمصالحهم، أخفوا هذه الحقائق، كما طمسوا قضايا مهمة تحتاج إلى قراءة مغايرة. مشكلة كاتب ياسين أنه ضحية أشباه الجامعيين الذين تخلوا عنه لأشباه السياسيين والمفرنسين والعلمانيين والمؤمنين والمثقفين والمعربين الذين جنوا عليه وهم لا يقرأون، ومع ذلك فإنهم يعرفون كلّ شيء عنه. لكنهم اختزلوه في اللغة والدين والأيديولوجية، وما سمعوه عنه، وتلك مأساة أخرى ساهمت في أسطرة الكاتب وجعله إمّا مقدسا أو مدنّسا، إمّا ملاكا أو شيطانا، بصرف النظر عن الفنيات والجماليات التي أسس عليها. نحن أمام مشكلة حقيقية تتعلق بالبحث العلمي. ليس من الأخلاق أن نحكم على أعمال أدبية لم نطلع عليها، أو أوّلناها وفق رغباتنا وميولنا، وليس من الحكمة تقييم كاتب دون أن تكون لنا فكرة عن أدبه: إنّ النسبة التي قرأت له ضئيلة جدا باعتراف الكاتب نفسه في أحد حواراته، وهذا ما جعله ينتقل إلى المسرح متخليا عن السرد. روح كاتب ياسين تتبرأ من عدة قراءات وتأويلات ومواقف وتقول لكم: أنا لست كذلك. لست هذه الأوهام التي تحاصرني من كل الجهات. لست كما تزعمون.