إن ما حققته المرأة الجزائرية على كافة الأصعدة, يمكن اعتباره تحصيل حاصل, فرضه تطور المجتمع. إذا اقتنعنا بهذه الفكرة البديهية , أضحت كل الاعتراضات على ما تحصل عليه المرأة من حقوق و مكتسبات , كالحرث في الماء . و لذا كان من الأجدى عدم إقحام قضية حرية المرأة و حقوقها المكتسبة في المزادات الحزبية , لاسيما و أن النساء يشكلن 52 في المائة من المجتمع , وهي نسبة تمثل الأغلبية المطلقة لحسم أي جدل بطريقة ديمقراطية , خصوصا إذا تعلق الجدل بحق من حقوق المرأة , كحقها في العيش في بيئة آمنة بعيدا عن كل أشكال التهديد و العنف و التحرش و الاعتداء مهما كان المنصب الذي تحتله , أو المسؤولية التي توكل إليها ... و هي مكاسب سمحت للمرأة أن تتبوأ مكانة محترمة في جميع مجالات الحياة السياسية , الاقتصادية , الاجتماعية , المهنية , و القانونية ... و إذا كانت أحسن الحقوق هي تلك التي لا تحتاج إلى قانون لتتمتع بها , فإن الحقوق المحصنة بالقانون أنجع في الحفاظ على التماسك الاجتماعي و هو ما حرصت عليه الدولة في تعاملها مع شؤون المرأة و الأسرة عموما . و قد تجلى هذا الحرص في جميع المواثيق الأساسية للدولة الجزائرية التي اعتبرت المرأة شريكا للرجل في معركتي التحرير , بدءا بنداء نوفمبر(1954) الذي نص على «احترام جميع الحريات الأساسية دون تمييز عرقي أو ديني «؛ و مؤتمر الصومام (1956) الذي خص تحرير المرأة بفقرتين في أرضيته تدعوان إلى إشراك المرأة في تسيير الشؤون العامة و في تنمية البلاد و إزالة كل العوائق في وجه تطورها وازدهارها و تشجيع الحركات و التنظيمات النسوية و تجسيد كل ذلك عبر مطالبة الحزب بمنح مناصب المسؤولية ضمن هياكله للنساء ؛و ميثاق طرابلس (جوان 1962)؛, الذي نص صراحة على تحرير المرأة باعتبارها نصف المجتمع و مشاركتها الفعلية في معركة التحرير , و دعت الوثيقة إلى « محاربة الأحكام الاجتماعية المسبقة و المعتقدات الرجعية و توفير الشروط الموضوعية التي تسمح بإشراف النساء على تسيير الشؤون العامة و تنمية البلاد «. تجسيدا للمهام الاقتصادية و الاجتماعية للثورة الديمقراطية و الشعبية . و هو ما اقتبسه أيضا ميثاق الجزائر (أفريل 1964) مضيفا أن المساواة بين الرجل والمرأة يجب أن تترجم إلى واقع ملموس . من خلال تمكين المرأة الجزائرية من المساهمة الفعلية في العمل السياسي و في بناء الاشتراكية بنضالها في صفوف الحزب و المنظمات الوطنية و بتحملها المسؤوليات , و من خلال وضع طاقتها في خدمة البلاد بالمشاركة في النشاط الاقتصادي لتضمن بالعمل رقيها الحقيقي . و كل ما أنتجته جبهة التحرير طيلة عهد الحزب الواحد من مواثيق مرجعية , تضمنت نفس الخطاب بتلوينات لغوية تناسب المرحلة حول وضع المرأة الجزائرية و ما استجد من معاهدات دولية في الموضوع صادقت عليها البلاد . بل يمكن القول أن الخطاب نفسه استمر إلى ما بعد اعتماد التعددية الحزبية , لأن مبادرات الأحزاب على اختلاف إديولوجياتها في ما يتعلق بموضوع المرأة ظلت تنهل من الأرشيف السياسي للحزب العتيد و منظماته الجماهيرية الذي يتمحور عموما حول شعار إشراك المرأة في مسار التنمية وإدماجها في الحياة السياسية و الاقتصادية . ... و في الدساتير الجزائرية ... و نفس الملاحظة تصدق جزئيا على دساتير الجزائر المستقلة , إذ أكد أول دستور (1963) في ديباجته على أن من مقتضيات نجاح الثورة «الإسراع في انبعاث المرأة من أجل إشراكها في تسيير الشؤون العامة وتنمية البلاد». كما نصت مادته 12 على انه «لكل المواطنين نفس الحقوق ونفس الواجبات « . و ضمن دستور 1976 للمرأة الجزائرية في مادة مستقلة (42) «كل الحقوق السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية» و هو ما ورد في بقية الدساتير بصيغ مختلفة , غير أن التعديل الدستوري لسنة 2008 , جعل مهمة ترقية الحقوق السياسية للمرأة و توسيع حظوظ تمثيلها في المجالس المنتخبة , مهمة دستورية على عاتق الدولة بمنطوق المادة 31 مكرر التي تطلبت قانونا عضويا لتحديد كيفيات تطبيقها . و قد تدعمت هذه المادة بأخرى تكملها في التعديل الدستوري الأخير (2016) , أوكلت للدولة كذلك مهام «ترقية التناصف بين الرجال والنساء في سوق التشغيل , و تشجيع ترقية المرأة في مناصب المسؤولية في الهيئات و الإدارات العمومية و على مستوى المؤسسات «. من جهة أخرى فقد تكرر الفصل الخاص بالحقوق و الحريات في جميع الدساتير التي عرفتها الجزائر (1976-1989-1996 ثم 2016) و بعدد من المواد يتقلص أو يزداد , لكن بحقوق أكثر وأوضح مع كل تعديل دستوري , بحسب المعاهدات و الاتفاقيات الدولية , الإقليمية أو الجهوية التي تصادق عليها الجزائر . ...و في المعاهدات الدولية ... و زيادة على الضمانة الدستورية لحقوق الإنسان , أكدت السلطات الجزائرية إرادتها السياسية في المضي قدما في نهج تكريس هذه الحقوق , بالتوقيع و التصديق على جل المعاهدات و الاتفاقيات الدولية و ملحقاتها المتعلقة بحقوق الإنسان فانضمت إلى العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية و السياسية (1968-1989) و العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية (1968-1989) و الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري (1966-1972) , و الاتفاقية الدولية لحماية حقوق جميع العمال المهاجرين و أفراد أسرهم (2005) , و الاتفاقية الدولية لحماية الأشخاص من الاختفاء القسري (2007) , و اتفاقية مناهضة التعذيب و غيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية و المهينة (1985-1989) , اتفاقية حقوق الطفل (1990-1993) , و اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة (2007-2009) , و اتفاقية القضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة (1996) , و اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية (2002) وبروتوكوليها المتعلقين بالاتجار بالأشخاص و خاصة النساء والأطفال , و مكافحة تهريب المهاجرين برا , بحرا و جوا (2004). و مصادقتها كذلك على بروتوكول (بروتوكول مابوتو) ,الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان و الشعوب المتعلق بحقوق المرأة في إفريقيا, علاوة على الميثاق الإفريقي حول الديمقراطية و الانتخابات و الحكم الراشد. فضلا عن تكييف المنظومة القانونية لصيانة الحقوق و لم تكتف الجزائر بالانضمام إلى المعاهدات و الاتفاقايات الدولية و الجهوية ذات الصلة بحماية حقوق الإنسان ومن جملتها حقوق المرأة , و إنما دعمت ذلك بتكييف منظومتها القانونية مع مضمون هذه المواثيق , رغم أن المادة150 في التعديل الدستوري الجديد تنص على أن «المعاهدات التي يصادق عليها رئيس الجمهورية حسب الشروط المنصوص عليها في الدستور تسمو على القانون», حيث عرفت البلاد عدة إصلاحات سياسية بدءا برفع حالة الطوارئ في بداية 2011 و مراجعة عدة قوانين أساسية ,كنظام الانتخابات , الإعلام , الأحزاب السياسية , الجمعيات , الولاية و البلدية , توسيع تمثيل المرأة في المجالس المنتخبة... و تواصلت هذه الإصلاحات التي شملت خلال العهدة التشريعية السابقة عددا من القوانين الأساسية , كقانوني العقوبات و الإجراءات الجزائية و قانون المحاماة و القانون التجاري وعصرنة العدالة و الحالة المدنية , و النشاط السمعي البصري و قانون حماية الطفل , و قانون ترقية الاستثمار , و قانون تشكيلة المجلس الوطني لحقوق الإنسان .الذي تترأسه امرأة . تقارير غير منصفة رغم كل هذه الجهود, تواصل بعثات مفوضية حقوق الإنسان الأممية إلى الجزائر , صياغة تقارير تتخللها نفس التوصيات و إن اختلفت الصيغ , من قبيل ؛ إصلاح قانون الأسرة بإلغاء الأحكام التي تحرم المرأة من المساواة في الميراث , و تحريم تعدد الزوجات , و إلغاء شرط الولي في الزواج , و الاعتراف بزواج المسلمة من غير المسلم , و منح المرأة حق الطلاق (وليس الخلع) , و منح المرء حرية تغيير دينه , و عدم تجريم الإجهاض و ضرورة إحصاء السكان على أسس إثنية و دينية (لتسهيل مهمة دركيي حقوق الإنسان ) في اكتشاف حالات الميز العنصري ...و غيرها من المطالب المشابهة التي نحيل من يريد الاستزادة منها , على تقارير مقرري مفوضية حقوق الإنسان الأممية في أرشيف الأممالمتحدة حول الجزائر . المرأة الجزائرية لم تنتظر بيروقراطية المنظمات الأممية هذه , و اقتحمت كل مجالات العمل التي ظلت لفترة طويلة حكرا على الرجال , بحيث ارتفع عدد النساء العاملات بين 1962و2015 من 90500 الى 1.934.000 حسب معطيات الديوان الوطني للاحصاء, أي أن عدد العاملات قد تضاعف أكثر من 21 مرة في ذات الفترة . و هي أرقام تبرز الطفرة الكمية التي ميزت توظيف العنصر النسوي خلال عهد الاستقلال , و هو أمر لا يفاجيء الباحثين الأكاديميين في العلوم الاجتماعية , لأنهم بكل بساطة , قد توقعوا هذا «الزحف النسوي على سوق العمل « منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي من خلال تطور نسب تمدرس البنات و نتائج مختلف الامتحانات التي كان فيها للإناث النصيب الأوفر , و لذا انصب انشغال هؤلاء الباحثين « حول انعكاسات هذه الظاهرة الاجتماعية على المجتمع الجزائري وتساءلوا آنذاك عما إذا تم إعداد الجزائريين للتكيف مع واقع تتواجد فيه المرأة في كل مراكز القرار و مواقع تسيير شؤون البلاد صغيرها و كبيرها ؟ و هو التساؤل الذي لم يعد مطروحا بحكم الترسانة القانونية التي صاحبت المرأة في اقتحامها عالم الشغل و عالم السياسة , بدءا بالتعديلات الدستورية لسنة 2008 التي تضمن للنساء من خلال المادة 31 مكرر نسبة 30 % على الأقل من الحضور في المجالس المنتخبة على المستوى الوطني و المحلي تكريسا للتمثيل النسوي في هذه الهيئات . و كذا القانون المتعلق بالأحزاب السياسية وما أقره من إجراءات تحفيزية للأحزاب من اجل العمل على ترقية اكبر للمشاركة السياسية للمرأة. و انتهاء بالمصادقة على التعديلات الدستورية الأخيرة بهدف توسيع اكبر للفضاءات الديمقراطية لبلوغ مستوى المناصفة بين الرجل و المرأة في سوق العمل و تشجيع ترقية المرأة في مناصب المسؤولية في المؤسسات العمومية. و هي المناصفة التي تريدها الجزائر أن تؤدي إلى حركية حقيقية داخل المجتمع, وتشكل تطورا إيجابيا للحريات الديمقراطية في بلادنا. بحيث أن ما هو مخطط له اليوم لن يتحقق بفعالية إلا بمرور الزمن الذي يساهم على المدى البعيد في التغيير الإيجابي للذهنيات. و للنساء الدور الأكبر في هذا التغيير , و هو ما نبَّه إليه الرئيس الراحل هواري بومدين في خطابه أمام المؤتمر الثالث للاتحاد الوطني للنساء في أفريل 1974 : «إن النظام الثوري يعمل على مساعدتكم من خلال إعداد تشريع يفتح أمامكم كل الأبواب نحو المستقبل، ولكنّه يتوجّب عليكن تجسيد هذه القوانين وتطبيقها. لا تنتظرن أن نفرض تغيير بعض الذهنيات المتحجّرة بالقوّة..» و هي دعوة عمرها 43 عاما للنساء كي يبادرن باستثمار الترسانة القانونية الموجودة لتكريس حقوقهن السياسية على وجه الخصوص بقوة القانون , دعوة ما زالت سارية إلى اليوم .