كم تغيّر العالم حولنا...كم كبُر همّه فينا و تقزمت آماله... ليس غريبا أن أستحضر و أنا أكتب... قصة احد أصدقاء العائلة الذي كان متبحرا فكره في المفاهيم الدينية و الفلسفة الحياتية , هكذا كان يراه الجميع الى يوم ما نجحت ابنتيه التوأم في شهادة الثانوية العامة بتقدير جيد ...تفاجأتا لحظة ما أعلن لهما خبر حرمانهما من مواصلة التعليم الجامعي بحجة الاختلاط الموجود في الجامعات بين الجنسين... إلا أنه ما لبث أن يكبر ابنه الصغير و ينال رتبة المراهق ...ليراه الناس عائدا يوميا إلى بيته في حالة سكر , يقيم علاقات مع هذه و هذه و الأب المثالي _ في نظر نفسه_ على علم بما يفعل... انتظرتُ وقتها أن يتحرك الأب منددا على الأقل بما يقوم به الولد الصغير لكن انتظاري باء بالفشل الذريع و بالخيبة حين طال و أصبح يؤكد تسامح الأب و تفهمه بأنّ ابنه في مرحلة حرجة من عمره و لا حرج عليه...و لم يكتف بذلك فحسب بل أيضا قام بتزويج إحدى بناته رغما عنها لرجل يكبرها سنا ...و تكبره معرفة و مستوى... لم يلمه أحدا على فعلته ولم يتدخل في شؤون بيته مخلوق ...إلا أن ابنته يوما عادت مخدوشة الكرامة باكية متحسرة , منتفخة الملامح ... حاملة شكواها الضعيفة اليائسة مستنجدة بعائلتها من جور قرينها و تفاهة مبادئه...و ما لبثت أن تجلس و تأخذ أنفاسها حتى دخل جل أفراد العائلة و الجارات و الصديقات و بدأت سماء الجهل تمطر نصائح و رجعية , و أرغمت الفتاة على الرجوع لأن لقب المطلقة أخطر بكثير من واقع بلا كرامة... لأن الطلاق يفتح أمامها أبواب الآثام و جحيم المجهول و لأن مذلها كزوجة مفعول بها تضمن لها مكانا في الجنة... بريئة هي الحياة و الأديان من أفكار هؤلاء و بريئة حين تمضي الأيام قدما في أقدار المقهورين و تجدهم يبتسمون و تجد من ظلمهم يتذمر متعطشا للمزيد من الضحايا , بكل تأكيد ليست الحياة ليست مثالية، هي رحلة كفاح تضرم النار في جسد الخوف حتى آخر اللهب... و نوثقها بالكتابة ، حكايا من هذا الوجع اليومي العادي لدى ملايين النسوة هو بيئة رواياتها ...قرأتُ لها منذ زمن بعيد... قبل أن تجمعني بها الصُدف و أقدار الصداقة ...تلك المرأة الجميلة التي تشابه في كل حرف بطلات رواياتها اللواتي يحملن هموم المرأة الجزائرية , المغاربية , الأمازيغية إلى العالم ... وسط مكتبتها كانت كالفراشة الهادئة التي لا تقتات سوى من وجع القلوب , من عذوبة الأنثيات وهمسات الحروف ... هي كاتيا حسن ... روائية من زمن المهجر الجميل ،تتنفس حنينا و رونقا و عذوبة ...و التي تحاول منذ زمن أن تغتال الأرواح الشريرة المنتصبة أشباحها بين ثنايا المجتمعات الرجعية المنغلقة ... شاءتْ الأيام أن تبوح لي و شاي بالياسمين على طاولتنا الزهرية ... من مواليد الجزائر العاصمة لسنوات الستينيات , من رحم عائلة قبائلية محافظة , تتلمذتُ بالمدرسة الفرنسية " ديكارت" بالجزائر ,اختصاص آداب و علوم إنسانية فرع اللغة الانجليزية و آدابها و من ثمة إلى عالم الصحافة ..,حيث اشتغلتُ بجريدة "الآفاق " الفرنكوفونية و عضو مؤسس لجريدة " مساء الجزائر" أيضا ...التي كانت تدير على صفحاتها كل القضايا و المواضيع المتعلقة بالمرأة بمكتب الجريدة بمدينة تولوز الفرنسية منذ 1995 ... مهتمة دائما بالمقاهي الأدبية و الورشات الفنية إلى أنْ تفرغت مؤخرا للكتابة . كاتيا حسن بمدينة تولوز منذ عقود من الزمن ... مأخوذة بعتماتها و تناقضاتها، هي بالنسبة لها مسقط التناقض و الإيحاء و الإلهام ... خصوصا في أوّل روايتين " قدَر نرمين " و " إلى آخر اللهب" ...اين تتجسد المدينة بكل اختلافاتها و جالياتها و شوارعها المتميزة... و بعد سنوات الغربة و الحنين ..تعتقد أن العاصمة كان يمكن لها أن تعطيها ما أعطته لها باريس و تولوز و غيرها كفنانة و كاتبة... بكل تأكيد ...الجزائر دفعتها الأولى و خطوتها الأولى و تجربتها الاكثر تميزا و عمقا ... سعيدة أن يحتفي القارئ بكتاباتها في فرنسا كما الجزائر. مصادر تأثرها مستوحاة من آلامها و بهجتها ... تتجسد شخصيتها بشكل أو بآخر تحت طيات أبطال الرواية فهي ليست مجرد خيال مبني على آلام الواقع ... كلها أنشودات للحياة و للحب , للبحث عن الحرية , للسلام , للكرامة , للكرامة الانسانية ...نرمين , مينا و مزيان كلهم في صراع و تحد مع الحياة ... و تعتقد أنها تشبههم في الكثير من التفاصيل ... ترى كاتية حسن من المهجر واقع الرواية الجزائرية المكتوبة بالفرنسية إشعاعا يضيء الفضاء الأدبي الجزائري و العربي و ثراءً يضيف الكثير إلى تاريخ الرواية الجزائرية. تردد كاتيا دائما : "أهمّ ما في الكتابة الجزائرية أنّنا ننتمي لوطن واحد هو الجزائر و لهوية واحدة هي الجزائر و في أرواحنا منشودة أغنية الوطن.