ماذا لو بلغ مسامعك موت أقرب المقربين إلى قلبك، أتراك تحزن على فراقه فقط، أم أنك ستندم على قلة أو عدم إفصاحك عن حبك له وبأهميته في حياتك، وهل يعود الزمن دقيقة واحدة لكي تتدارك ما غاب عنك؟ مستحيل، فالحياة تسير حسب قواعد وضعها الخالق ولن تحيد عنها، وهو ما اصطدم به الأديب الجزائري أنور بن مالك بعد فقدانه والدته، معبرا عن حزنه الشديد وندمه العميق لقلة تعبيره عن حبه لها في حياتها، وهو ما جاء في روايته الأخيرة ''لن تموتي مجددا في الغد''. ندرك جميعا أننا سنموت يوما ما ولكن هل نعي حقيقة قدرنا المحتوم؟ هل نشعر حقا بنهاية أجلنا فنسرع إلى الإفصاح عن مشاعرنا ونخبر محبينا بحبنا لهم ونتدارك هفواتهم، وقد يكبر قلبنا أكثر من حجمه المعتاد ويعفو عمن أساء إلينا حتى نستسيغ حياتنا أو ما تبقى منها على أحسن وجه؟ أسئلة قد يكون أنور بن مالك طرحها في ذهنه بعد أن أدرك عن وعي أن الحياة قصيرة وقصيرة أكثر مما نعتقد. وفي هذا السياق قال بن مالك ل''المساء''، أنه كان يعطي للموت مفهوما ميتافيزيقيا وفلسفيا، إلا أن بعد رحيل والدته إثر مرض عضال اكتشف مخالبه بعد فوات الأوان، ولم يعد للموت ذاك التفسير العام، بل أصبح يشعر بقربه فلم تعد حياته كالسابق وهو ما تجلى أيضا في طريقة كتابته، حيث لم يعد يكتب ببراءة معتقدا أن الوقت في صالحه، بل أصبح يكتب وهو على وعي بأن الحياة تنتهي بسرعة ولا ترحم". وجاءت حاجة أنور في التعبير عن مجمل الأحاسيس التي سبحت في أعماقه، بعد أن رأى والدته مسجاة أمامه، وقال ''عندما شاهدت أمي بدون حراك أدركت ما معنى كلمة أبدا التي دخلت قاموسي الشخصي من بابه الواسع، ووعيت أيضا ضرورة أن اكتب شيئا اهديه لأمي، وبالأخص أن اعبر فيه عن حبي الكبير لها وأنا الذي لم افعل ذلك بالشكل المطلوب في حياتها، وكتبت هذا العمل أيضا لكي أخلد ذكرى أمي فهي ماتت فعلا، ولكن هناك نوعان من الموت، موتة تصيبنا جميعا وثانية تمس الذين يختفون من ذاكرة محبيهم، وأنا أريد أن تظل أمي حية في ذاكرتي وفي ذاكرة كل من أحبها وحتى في ذاكرة من يقرأ هذه الرواية.. نعم لو لم أكتب هذه الرواية لتوقفت عن الكتابة إلى الأبد". واستطاع أنور أن يجمع في روايته بين الحياة الصغيرة لعائلته والحياة الكبيرة التي كانت تدور في بلدان من افريقيا واوروبا، وحتى في دول من العالمين العربي والاسلامي، فقص حياة أفراد من الجزائر والمغرب وسويسرا وغيرهم وهم يناضلون من اجل معيشة كريمة في زمن الاستعمار الذي حاول سلب كرامة الأشخاص، إلا أنها ومع ذلك يقول انور حملت تلك الحقبة الكثير من الأمل، وحكى بالتفاصيل حياة والدته المغربية ابنة لاعبة السيرك السويسرية وزوجة جزائري... إلا أن أنور قبل أن يتطرق إلى حياة والدته، توقف كثيرا في محطة إصابته بحزن كبير وغضب شديد، ألا وهي محطة المستشفى، حيث احتضنت الأيام الأخيرة لوالدته، فقال ''فضيحة كبيرة ما يحدث في مستشفياتنا، أطفال مرضى لا يتلقون أية زيارة، فرق شاسع في المعاملة بين المرضى الفقراء والأغنياء، عدم انسانية معظم أعضاء الطاقم الطبي، شاهدت مشاهد مخزية ليس لها مكان في بلد غني كالجزائر وحارب 132سنة لأجل كرامته، مثل تلك المرأة المكلفة بتوزيع الخبز على المرضى وضعت الخبز على الارض ومسحت يديها في لباسها ومن ثم عادت من جديد ورفعت الخبز، أو المرة التي طلبنا فيه الممرض لان امي كانت تعاني كثيرا فجاء متثاقلا وتصرف بفظاظة ولم يكن علي أو على اخوتي أن ينددوا بهذا التصرف والا لكان انتقام الممرض من والدتي اكيدا". واعتبر أنور أن من اهم المشاكل التي يعاني منها الجزائري، قلة احترامه لنفسه واصبح قاسيا تجاه بعضه البعض واصبحنا نشعر بالحنين إلى زمن كان فيه الاحترام وحسن المعاملة من اهم ميزات هذا الشعب. وتساءل لماذا ننادي امهاتنا بالعجوز؟ والاستاذ بالشيخ؟، لماذا اصبح العيش في الجزائر غير مرحب به حتى من طرف الجزائريين انفسهم؟ مضيفا أننا لا نستحق هذا النوع من الحياة. ويكتب أنور في العادة روايات خيالية، إلا انه في هذه المرة وجد نفسه يكتب عن نفسه وعن والدته ووالده وفي هذا قال ''هذا الكتاب بالنسبة لي مفاجأة فأنا لا احب أن اكتب عن امور شخصية ولكنني وجدت نفسي افعل ذلك رغما عني، وبعد أن انتهيت من كتابة عملي خفت من ردة فعل اخوتي، والحمد لله، ان ردهم كان عموما ايجابيا، أما عن ردة فعل الآخرين فلا اعرفها ولا تهمني". وعن شعوره تجاه والدك المتوفى في سنة ,1982 أجاب انور انه تصالح مع والده بعد كتابته لهذا العمل. مضيفا انه لم يكن يستطيع أن يكتب هذا العمل ووالدته على قيد الحياة، لأنّه لم يكن يستطيع أن يكون قاسيا تجاه والده باعتبار أن هذا الأخير كان صارما مع زوجته واطفاله، صحيح انني شعرت بالغضب تجاه ابي لأنني احبه ولانني كنت اتمنى أن نكون اصدقاء إلا أن ابي والآباء من الجيل نفسه لم يكونوا يعبرون عن حبهم لأولادهم، فمع الاسف كم ضيعنا من وقت كان يمكن لنا فيه أن نتعرف على بعضنا أكثر''. أما عن مشاريع انور بن مالك الإبداعية، فهو بصدد كتابة رواية تجري احداثها اثناء الحرب العالمية الثانية، لكنه غير مقتنع بمواصلة هذا العمل فهو في العادة لا يتأكد من انه على الطريق الصحيح في كتابة عمل إلا بعد أن ينهي الفصل الثاني أو حتى الثالث من العمل. "لن تموتي مجددا في الغد''، رواية لأنور بن مالك صدرت هذه السنة عن دار القصبة، تناول فيها الكاتب حياة عائلة بن مالك بداية بحياة والدته المغربية التي عاشت طفولة قاسية بعد أن غادر والدها البيت متزوجا بامرأة أخرى وتركها رفقة والدتها السويسرية واخيها، لتنتقل بعدها إلى العيش مع ابيها وزوجته الجديدة والقاسية جدا ومن ثم تتزوج بجزائري هاو للمسرح ومهتم بجمع الاسلحة والادوية للمجاهدين، وتنجب خمسة اطفال من بينهم انور. وتعود العائلة إلى قسنطينة بعد الاستقلال وفيها يحكي انور عن والده الصارم ووالدته الكتومة، ويتناول محطات من حياته بين الجزائر واكرانيا وفرنسا، ليختتم عمله بالتحسر على رحيل والدته وهو الذي كان يتمنى أن تشاركه كتابة عمل يتناول حياة عائلتها وعائلة والده.