مما يذكر عن هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكية في عهد الرئيس جيرارالد فورد , أنه قال لمراسلة صحيفة واشنطن بوست , و اسمها مارلين بيرجر:" إنني مضطر أن أقول لك أكبر قدر من الأخبار والمعلومات ؛ لأن أول تقرير يضع الرئيس الأمريكي عينه عليه , هو رسالتك التي تنشرها الواشنطن بوست . إن الرئيس يجد جريدتك على مكتبه كل صباح, و يعتمد عليها في معرفة أهم أحداث العالم ؛ و بعد ساعات , و ربما أيام , تتاح للرئيس الأمريكي قراءة تقارير وزير الخارجية و سفرائه في العالم ". و هو ما يشير إلى أن ثعلب السياسة الخارجية الأمريكية , كان يضطر إلى التحايل على بيروقراطية الإدارة الأمريكية , لإيصال كل المعلومات و المعطيات الممكنة إلى الرئيس بشكل فوري لتمكينه من اتخاذ القرارات و المواقف من مختلف القضايا و الأحداث العالمية بما يخدم المصالح الأمريكية بطبيعة الحال . و هذا المثال قد يصلح لتأكيد الصلة الوثيقة بين الإعلام و السياسة الخارجية للدول , بل إن الإعلام أصبح يشكل البعد الرابع في السياسة الخارجية بعد كل من الاقتصاد , الجيش و الدبلوماسية . و هو بعد أساسي كذلك في السياسة الداخلية , بحكم تأثير الإعلام في جميع مناحي الحياة و مساهمته في صنع السياسات الداخلية والخارجية , و في تشكيل و توجيه الرأي العام "الوطني و العالمي" , حول مختلف القضايا و الأحداث التي يشهدها العالم . فالإعلام منذ نشأته ارتبطت نجاح الخطاب السياسي منوط بالمصالح المستهدفة مهمته بنشر "الوقائع العامة الخارجية و المحلية" , كما تؤكده أول صحيفة صدرت في الولاياتالمتحدةالأمريكية في سبتمبر 1690 , تحت هذا العنوان. و من خصائص الإعلام في عمومه , من وجهة النظر الأكاديمية البحتة , أنه عملية تعتمد على التخطيط المسبق الذي يحدد الأهداف و الرسالة , و أنه يحتاج إلى مؤسسات و هيئات حكومية أو مستقلة لتنفيذ الخطة (السياسة الإعلامية) , كم يتطلب إيجاد علاقة ثقة بين مصدر المعلومات و الجمهور المستهدف . أما بالنسبة لشروط نجاح السياسة الإعلامية , فيمكن للباحثين أن يعددوا ما شاءوا من العوامل و الخصائص المتعلقة بوسائل الاتصال , أو بمضمون الرسائل , أو بمجال النشاط , غير أن لغة المصالح هي التي تصنع النجاح أو الفشل , لأنها لغة تتجرد من العواطف و الانفعالات. فالإعلام في سعي دائب لإيجاد علاقة المنفعة و أدوات الارتباط بمصالح أكبر عدد من الناس, مع الملاحظة هنا أن المصلحة لا تنحصر في النطاق المادي الضيق. و هي ملاحظة ضرورية لتعليل "الثورة " التي أحدثتها وسائل الاتصال الحديثة و شبكات التواصل الاجتماعي في صناعة الرأي العام العالمي , أو المحلي.و منها الفيسبوك والتويتر واليوتيوب ...والتي أتاحت للمواطنين مساحات واسعة لنشر المعلومات بضمان سرعة وصولها لأكبر عدد من القراء والمتلقين خلال فترات قصيرة جدا, مع توفير مساحات واسعة من التفاعل مع القراء والمتابعين في أي مكان من العالم , إلى درجة أصبحت هذه المواقع تنافس وسائل الإعلام التقليدية من صحف وجرائد و تلفزيون و التويتر والفايسبوك أحدثا "ثورة" في صناعة الرأي العام إذاعة , في توفير و تنويع الخدمات الإعلامية في جميع صيغها الواقعية و الافتراضية . بل وأخذت تفوقها وتتغلب عليها من ناحية القدرة على التأثير في الجمهور. و الهدف العام من إنشاء هذه الشبكات هو ضمان التواصل الاجتماعي بين المستعملين , تضاف إليه أهداف خاصة كالبحث عن الشهرة و البروز عالميا و مراقبة ميول وتوجهات الجمهور و إنشاء جماعات ملتزمة و وفية , و الاستثمار الإشهاري و الاستماع إلى انشغالات الناس و مطالبهم . هذا فضلا عن استغلال هذه الشبكات في التصنت و التجسس على المستعملين من طرف مختلف أجهزة الاستخبارات العالمية .و كذا استغلال بياناتهم الشخصية للتأثير عليهم في خياراتهم الانتخابية , و ما فضيحة الفيسبوك في هذا المجال في قضية "كامبريدج أناليتيكا", إلا عينة عن مدى إمكانية التلاعب بتوجهات الرأي العام و قرارات الناخبين في خياراتهم الانتخابية. و إذا كانت شبكة الفايسبوك التي تتصدر ترتيب مواقع التواصل الاجتماعي بأكثر من ملياري مستخدم عبر العالم , تعتبر شبكة للتواصل العام مفتوحة لجميع الفئات و الهيئات و الأشخاص (الحقيقيين , الافتراضيين و الآليين) , فإن شبكة التويترالتي نقلت خدمة الرسائل النصية القصيرة من شبكة الهاتف إلى شبكة الانترنيت تعتبر شبكة للتدوين المصغر و موقعا للنخبة من زعماء و حكام و سياسيين و مشاهير ممن اتخذوها منصة للتواصل فيما بينهم و مع جمهورهم . و يقدم مشغلو التويترموقعهم على أنه "واجهة ما يجري في العالم و ما يناقش من مواضيع في الوقت الراهن" . و هكذا تَحَدَّد مجال اهتمام مسؤولي هذا الموقع , في توفير منصة للتواصل المحدود و الآني عبر تغريدة لا يزيد عدد حروفها عن 140 حرفا ( يفكر الموقع في مضاعفتها بعد ذلك) ,و هو ما فرض على مستعملي الموقع على التكيف مع هذه القاعدة بالتزام الإيجاز و التعبير المباشر و تفادي الحشو ما أمكن , خلافا لأساليب التواصل الأخرى . و رغم انتقاد هذا التحديد لنطاق التعبير من عدة جهات , إلا أنه لم يمنع الموقع من اقتطاع جزء كبير من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي عبر العالم حيث قدر عدد مستخدميه ب 330 مليون مشترك أواخر 2017 , و في مقدمتهم الرئيس الخامس و الأربعون للولايات المتحدةالأمريكية , دونالد ترامب , الذي وصفه البعض "بأمراطور التويتر" أو "تويترمان", لإدمانه التغريد على شبكة التويتر بوتيرة يومية تقريبا منذ ترشحه للانتخابات الرئاسية سنة 2015 ,مستعملا حسابه الشخصي الذي فتحه على هذه الشبكة منذ 2009 , غير أنه لم يستقطب جموع المتابعين إلا في غضون الحملة الانتخابية التي خاضها ضد منافسته هيلاري كلينتون و بعد فوزه غير المتوقع عليها , مما رفع عدد متابعي حسابه إلى 44مليون متابع حسب بعض التقديرات (كان عددهم 20,5مليون يوم تنصيبه رئيسا) . و للمقارنة فإن الرئيس السابق باراك أوباما لم يرسل سوى 340 تغريدة عبر موقعه الرئاسي على التويتر , في حين تجاوز عدد تغريدات ترامب على حسابه الشخصي 34200 تغريدة , منتزعا بذلك اعتراف خصومه بتميزه في التعامل مع وسائل الاتصال الجماهيري في القرن الحالي . و مقدما الدليل العملي على أنه لا وجود لموضوع أو قضية يتعذر عرضها ب140 حرفا. 1177 تغريدة على تويتر في أقل من 5 أشهر في تحليلها لظاهرة ترامب في علاقته بشبكة تويتر,لاحظت جريدة لوموند الفرنسية أن الرجل عادة ما يشرع باكرا في التغريد موزعا انتقاداته اللاذعة بعصبية على خصومه سواء على حسابه الشخصي (بلا تحفظ) , أو على حسابه الرسمي الرئاسي (مع شيء من التحفظ) , علما أن هذا الحساب الأخير قد ارتفع عدد متابعيه من 13 إلى 19 مليون بمقدم ترامب إلى البيت الأبيض. تحليل الجريدة الفرنسية استهدف تغريدات ترامب خلال الشهور الخمسة الأولى من فترة رئاسته و عددها 1177 تغريدة منها 817 تغريدة أصدرها عبر حسابه الشخصي و البقية على الحساب الرسمي , هذا الأخير الذي خصصه للمواضيع ذات الطابع المؤسسي بنسبة 40% و لقضايا الوطنية بنسبة 14,8% و ما تبقى للأحداث الجارية . و في حسابه الشخصي خص الإعلام ب15,8 % و المعارضة ب17,3% من تغريداته , و ما تبقى يتوزع على قضايا الأمن و الاقتصاد و الوطنية و المؤسسات و المجتمع و المختلفات ... أما من حيث النبرة المستعملة , فإن تغريدات ترامب توزعت بين لهجات النقد الحادة , و المدح و الإطراء و الرضا عن النفس و الحياد و الوعد و الجرأة و الشعبوية و الاحتفاء . و إذا كان ترامب مداوما على التغريد طيلة أيام الأسبوع فإنه يكون أنشط يومي الخميس و الجمعة (34% من التغريدات). كما أن 46 % من التغريدات دونت في الصباح بين الساعة السادسة و منتصف النهار , و الوقت الذي لم تسجل فيه أي تغريدة ,هو بين الثانية والرابعة صباحا.
من السخرية إلى الإذعان و يبرر ترامب لجوءه إلى التويتر للتواصل مع ناخبيه و العالم , للالتفاف على وسائل الإعلام التقليدية لموقفها المنتقد تجاهه , و التي ينعتها باسم "الأخبار الزائفة", متجاهلا في نفس الوقت أن هذه"الاستراتيجية"في التواصل مع الناس ,تبقيه غير مفهوم لدى 66 % من الأمريكيين الذين ليست لهم حسابات على شبكة التويتر. غير أن ترامب يكفيه من تغريداته أن تحقق المبتغى منها , كما هي حال التغريدات المستهدفة لبعض الشركات , مثل شركة جنرال موتورز التي تراجعت أسهمها في الأسواق بتغريدة من ترامب و نفس الخسائر مُنِيَت بها شركة "لوكهيد مارتن" مصنعة الطائرات المقاتلة و كذا شركة بوينغ , و أجبر شركة "كاريير" لصناعة المكيفات , على البقاء في أمريكا بعد إعلان نيتها نقل مصنعها إلى المكسيك و اضطرت شركة فورد من جهتها إلى إلغاء مشروعها لبناء مصنع في المكسيك, و غيرها من المكاسب التي جناها ترامب بأقل من 140 حرفا على حسابه بشبكة التويتر , مما دفع الكثير من القادة السياسيين و الصناعيين إلى الإذعان لإرادته بعد أن كانت تغريداته تثير سخريتهم . و من يدري , قد تصبح تجربة ترامب , قدوة للسياسيين و رجال الأعمال في كيفية استغلال مواقع التواصل الاجتماعي و تطويعها لخدمة أغراضهم بأقل التكاليف , و بفعالية منافسة للإمراطوريات العالمية للإعلام التقليدي.