عاشقان ظلت العجوز وهي تتوكأ على عصاها تذرع البيت ذهابا وإيابا، أسرعت إلى الباب تفتحه وقد أقبل زوجها، سأل وهو يضع ما جاء به من السوق. -أراك قلقة حبيبتي. تولي عليه قلقة. -لأنك لم تعد تهتم بي، تخرج صباحا تسرح وتمرح، وتلاعب أترابك من الشيوخ الذي حرث الدهر أبدانهم، ثم تعود إلى البيت منتشيا، لا تزيد على العشاء لتغط في نوم عميق. يضع عصاه جانبا ويجلس إلى الأريكة الفاخرة. -أنت تعيرينني. توغل العجوز في قلقها. -وحين تخلد إلى النوم يصير فمك المنفتح عن آخره كعجلة جرار ثقبت فجأة. -ورغم ذلك أحبك. تضرب الأرض بعصاها محتجة. -لا تكذب علي، طول عمرك تكذب علي، أنت لم تحبني يوما. يعتدل الشيخ في جلسته وكله هدوء ووقار سائلا: -وما دليلك حبيبتي؟ -دليلي أن نسيت أهم حدث في حياتنا. -لا ما نسيت. -بل نسيت. -حتى لو نسيت فأنا معذور، لقد حرث الدهر ذاكرتي كما قلت. -أنت تقدم الأعذار الواهية لنسيانك، لذا أنا مضطرة... تسكت فجأة فيقف إلى جانبها محاولا إرضاءها. -لأي شيء تضطر حبيبتي. -لا تحاول إرضائي، سأطلب الطلاق. -تقصدين الخلع. -طلاق أو خلع لا يهم، المهم أتخلص منك. -ستعوضينني بمبلغ ضخم، وسأتزوج ثانية، وأعيش سعيدا. -وحتى أنا، لن أبيت ليلة واحدة في بيت أبي، الخطاب سيتزاحمون علي. -حتما وسأفوز أنا بك لأني سأخطبك مرة ثانية. -ولن أقبل. يمسك بيدها فتتمنع، يقربها إليه قائلا: -ما يغضب الحبيبة؟ -لأنك نسيت ذكرى عظيمة في حياتنا. -لا ما نسيت. -ودليلك؟ يخرج من جيبه علبة، يفتحها على مهل، يخرج منها خاتما كبيرا ويقول: -خذي حبيبتي هديتك، هدية ذكرى زواجنا. تمد يدها إليه، تتأمله، يمسك به ويضعه في إصبعها. -أرأيت حبيبتي كم أنا وفي؟ لا يمكن إطلاقا أن أنسى ذكرى زواجنا. -هذا الطقس الماطر ذكرني بذكرى أغلى حتى من زواجنا. -وهي؟ يا صاحبة الذاكرة القوية. تجلس على الأريكة فيجلس إلى جانبها، تتابع حديثها كالحالمة. -كان ذلك منذ ستين سنة، وهو ذاته جعلناه تاريخ زواجنا أيها الشيخ الذي حرث الدهر ذاكرته. يطرق الشيخ حزينا كأنما تذكر الحادثة، صمتت تتأمله، كأنما تنتظر أن يقول شيئا، رفع رأسه وقال: -يا زمان الفتوة، يا زمان الحب، فعلا تذكرت، إنها ذكرى أول موعد ضربناه بيننا. تندفع ملتصقة به، متحمسة للحديث حالمة: -وكان الطقس باردا ممطرا، أمازالت تلك الشجرة كما هي؟ -بل هرمت كما هرمنا، كلما مررت بها تأملت طويلا ما نقشناه عليها. تبتسم بسعادة، وتنط كالصغيرة: -ويحك أمازال؟ يا لخجلي لو يراه أحفادنا. تغير فجأة الحديث، وتعود للجلوس إلى جواره: -حبيبي لي طلب عندك. -أمرك حبيبتي. -نعيد الحادثة كما وقعت بالضبط. يتمتم الشيخ منزعجا. -تصابت العجوز والله. -ما قلت؟ -لا شيء، لا شيء، أمرك، أمرك. تقوم عجلة، تمد إليه يدها توقفه. -هيا انطلق، انتظرني هناك، لن أتأخر عليك، حين أصل سأجدك مبللا بالمطر، وستصرخ في. -مالك تأخرت كثيرا حبيبتي؟ تمسك بذراعه حالمه قائلة: -سأقول لك بدلال: لأعرف مكانتي عندك ومدى حبك لي. يسرع الشيخ بالخروج، متمتما. -ما أفعل سأحقق لصغيرتي حلمها. تشغل هي أغنية أم كلثوم "أغدا ألقاك" تجلس على الأريكة، تنزع غطاء شعرها، تحمل مجلة تتصفحها مدندنة مع الأغنية، تمد يدها من حين لآخر إلى المدفأة، وقد اشتدت الأمطار والرياح، بعد دقائق يشتد الطرق على الباب، ثم يفتح عنوة، يدخل الشيخ مبللا مرتعدا: -أين أنت أيتها العجوز الشمطاء، انتظرتك حتى كدت أموت. -سلامتك حبيبي، سلامتك. تسرع إليه بمنشفة، تنزع ثيابه المبللة، يدفعها بعيدا. -اتركيني ابتعدي عني، أخلفت الوعد، أهذا هو الحب الذي بيننا. ترتمي في أحضانه، تهدئ روعه قائلة: -سامحني حبيبي، والله والدي لم يتركني، حاولت... -والدك؟ -طبعا، أعتقد أته تفطن لموعدنا فلم يسمح لي بالخروج، اللعنة على الظروف اللعنة. تجهش بالبكاء، يسرع إليها الشيخ يحتضنها، ثم ينسحبان بعيدا.