يتقدم كالبجع، يساند حائطا ترابيا هرم··رجلاه اليابستان المعقوفتان تخطو في الوحل خطوات ثقال بعمر الهم الممتد خلفه·· عيناه المرشوشتان بالبياض تبدل ما تبقى لهما من بصر لإرشاده إلى بوابة المسجد العتيق القائم أمام على بعد أمتار·· المسافة تتراءى له أبعد من آخر ابتسامة وزعها مجانا على أهل دشرته·· يتوقف هنيهة·· يمسح عرقه·· ينظر أمامه بإمعان·· ضوء القمر يبين له صخرة بالجانب الآخر من الممر·· يتنهد·· يشدّ عصاه و يقصدها·· غير بعيد صياح الديكة يعلمه أن آذان الفجر لم يعد بعيدا·· يقتعد الصخرة·· يسحب منديلا مهترئا·· يمسح عينيه و شدقيه·· يتنهد باسترخاء باحثا عن نفس جديد، عن ما تبقى من رئتيه·· يرسل نظرة إلى باب المسجد المضاء كلية بنور البدر المختال بين السحاب·· يلمح كلبا أبيضا مبللا يراقبه بارتجاف و قد سجن ذيله بين فخذيه·· يبتسم العجوز له : ُ سبقتني اليوم يا أبيض·· رغم المطر لا تخلف ميعادك·· و أنا كذلك لازلت على وعدي·· لا أنكر أن المرض كاد يقعدني هذه المرة·· لكني تذكرتك·· أجل تذكرتك·· يمدّ يده إلى قلنسوة جلبابه الشتوي·· يجعله أمامه·· يرسل يدّه بداخلها فتخرج محملة بكيس بلاستكي أسود مليء·· الكلب يهز ذيله و يقترب منه باحتشام ·· يفتح الشيخ الكيس و يضعه أمامه على الوحل مشيرا للكب المبلل الخجول بيده و ينبس: اقترب·· لا تخف يا أبيض·· ليس هذا من عادتك·· اقترب، أحضرت لك حقك من وليمة البارحة·· رأيت لم أنساك·· بعيون تعبة يقترب الكلب الأبيض المبلل·· الشيخوخة أرهقت أطرافه هو كذلك ، و أبانت هيكله الفارغ·· يلقي نظرة إلى الكيس المفتوح يشمشم·· يعاود النظر إلى الشيخ و يرسل نحنحته الرقيقة الحنونة·· يبتسم العجوز زافرا: ُ لا تشكرني ·· هذا واجب الصحبة ·· كل؟ ·· يتأمل العجوز في فرح الكلب الأبيض المبلل و هو يفرغ بشغف الكيس·· يرفع رأسه مرسلا نظره متأملا القمر و هو ينير ساحبة مرت اللحظة بجانبه··يحمد الله على غيث البارحة·· يتوقف الكلب عن الأكل فزعا·· يرفع نظره القلق إلى وجه العجوز·· يرسل فصيصا خافتا ·· يشدّ العجوز على صدره·· قسمات وجهه تنقبض و يكسوها الشحوب عنوة·· ينبس بصعوبة: ُ يا أ الله·· يرفع سبابته اليمنى·· شفتاه تتمتمان·· الكلب الأبيض المبلل القلق يرسل فصيصه الحنون·· يقترب من يد العجوز المرتخية·· يلعقها و يلعقها متفقدا عيناه المعلقتان بالسحاب·· صياح الديكة البعيدة يتعالى مرافقا عواء كلب مبلل مفجوع··