قال رسول الله: {من حسن إسلام المرء: تركه ما لا يعنيه} قال العارفون بالله وحقوقه من جملة محاسن إسلام الإنسان، وكمال إيمانه: تركه ما لا يُهمه من شؤون الدنيا، سواء من قول أو فعل، وعدم التدخل في شؤون الغير التي لا تهمه ولا تنفعه، ولا تتطلب منه نصيحة ولا معونة، بل يزن نفسه قبل أن يقدم على أي عمل لا يعنيه، فإن كان يترتب عنه سوء أو مضرة فمن الواجب تركه. في هذا المضمار سأقص عليكم قصة، تدركون من خلالها النتائج الوخيمة لمن يتدخل فيما لا يعنيه من قريب أو من بعيد. يُحكى أن فلاحا كان يقتني ثورين لحراثة أرضه وحمارا يركب عليه عندما يذهب إلى عمله. وحدث أن الحمار أراد في إحدى الليالي أن يمد حديثا مع أحد الثورين، فسأله عن صحته وعن أحواله. أجابه الثور أنه مرهق لأن الفلاح يفلح عليه. فتبرع له الحمار بنصيحة، وقال: "اترك عليقك ولا تأكله هذه الليلة، فيظن صاحبنا أنك مريض ويعفيك من عملك" .وقبل الثور النصيحة. ولما جاء الفلاح ووجد عليق الثور ما زال في معلفه، قال: لا بد أن يكون الثور مريضا فتركه، وأخذ الحمار فربطه إلى جانب الثور الاخر وفلح عليه. حتى أنهكه التعب وقتلته المريرة والجريرة، وتصدع من الدوران طول النهار. فاعترف الحمار عندئذ: " صدق من سماني حمارا، وما حدث اليوم دليل على حمرنتي". وعندما عاد مساء شكره الثور طالبا منه نصيحة ثانية. فقال الحمار: لا توجد عندي غير نصيحة واحدة انصح نفسي بها قبل الاخرين: "من تدخل بما لا يعنيه،لقي ما لا يرضيه". وجرى جواب الحمار مجرى المثل إلى يومنا هذا .. أناس يتدخلون في قضايا غيرهم فتنقلب عليهم نتائجها بالخسارة والبوار، أو تؤدي إلى مضار للعباد، كتفريق الشمل، وتشتيت البيوت، وتفريق الأزواج، ونزاع الأشقاء، .... والمتدخل في أمور الناس محروم من الخير، لا ينظر الله إليه يوم الرحمة ولا يشفع فيه، لأنه مشاء هماز، قال ابن القيم رحمه الله: وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم الورع كله في كلمة واحدة، فقال: (من حسن إسلام المرء: تركُه ما لا يعنيه)، فهذا يعم الترك لما لا يعني: من الكلام، والنظر، والاستماع، والبطش، والمشي، والفكر، وسائر الحركات الظاهرة والباطنة، فهذه كلمة شافية في الورع. وقيل للقمان: ما بلغ بك ما نرى؟ يريدون الفضل، قال: صِدق الحديث، وأداء الأمانة، وترك ما لا يعنيني. وقد لخص أحد العلماء مغزى الحديث في العناصر الأتية: 1- ينبغي للإنسان أن يدع ما لا يعنيه؛ لأن ذلك أحفظ لوقته، وأسلم لدينه. 2- ترك اللغو والفضول دليل على كمال إسلام المرء. 3- الحث على استثمار الوقت بما يعود على العبد بالنفع. 4- البُعد عن سفاسف الأمور ومرذولها. 5- التدخل فيما لا يعني يؤدي إلى الشقاق بين الناس. 6- الحديث أصل عظيم للكمال الخلقي، وزينة للإنسان بين ذويه وأقرانه. 7- وفي الحديث حثٌّ على الاشتغال فيما يعني المرءَ من شؤون دِينه ودنياه، فإذا كان مِن حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، فمِن حُسنه إذًا اشتغالُه فيما يعنيه. وقد أحسن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قَالَ لِرَجُلٍ وَهُوَ يعِظُهُ لَا تَتَكَلَّمْ فِيما لَايَعْنِيك وَاعْتَزِلْ عَدُوَّك وَاحْذَرْ صَدِيقَك الْأَمِينَ ،إلَّا مَنْ يَخْشَى اللَّهَ وَيُطِيعَهُ وَ لَا تَمْشِ مَعَ الْفَاجِرِ فَيُعَلِّمَك مِنْ فُجُورِهِ ،وَ لَا تُطْلِعْهُ عَلَى سِرِّك وَ لَا تُشَاوِرْ فِي أَمْرِك إلَّا الَّذِينَ يَخْشَوْنَ اللَّهَ. ولقد نبهنا المولى العزيز الحكيم إلى ذلك فيقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾ (36) سورة الإسراء.