أما آن لنا أن نقول إن الشعر بوح شخصي أنتجته المناجاة، فهو ساكن العزلة والخلوة و الفلوات، هكذا كان صافيا مثل مواعيد العشق مزهوٌ بوجوده مثل فكرة انتصار . ولأن الشعر فيه كل هذا السحر والجمال صار محطة ً تتزاحم عليها المتون السلطوية _ السياسية ، وذلك لتغليف خطابها بالخالد من الكلمات والمشاعر والإيقاع ؛ ما أنتج كل هذه الأغراض الشعرية ،وقد اغتالت الافا من الإشراقات الشعرية الشخصية لتداخلها معجم التسويق القبلي أو الفئوي أو الطائفي أو القومي أو السياسي أو أي خطاب آخر ممكن أن يعبر عنه بأية وسيلة أخرى غير الشعر . الشعر هو هذه اللحظات .... وهذه الشحنات ... التي لا يمكن لها أن تكون زمنا بمفردها والتي لا تصلح أن تكون حدثا قائما بذاته ... هو أن تسقط ثمرة في دغل ولا أحد ولو في حلم يقوم بتدوين ذبول، شفتيها وخديها أو حتى أن يتمكن من تخليد لحظات نسيانها ،وهو النافذة التي لا يراميها أحد بشواظ عشق ، هو الريح التائهة في الفلوات... وهو الموجة التي تتكسر على رجلي عاشقين و لايبصرانها ولا يهديان لها أخر قبلة أو آخر لمسة . من هذا الإنحياز للشعر وانطلاقا من صفائه وروحانيته يمكننا أن ندخل العالم الشعري للشاعرة نورا تومي، لنجدها منشغلة بكل هذه الفراغات التي تملأ حياتنا فهي تبحث بدأب عن كل ما هو منسي حدَّ الذبول ، عن قمر يختفي في مصباح آفل ، عن نافذة باردة من النسيان، عن أريكة لا ينفخ في دفئها أحد ؛ في فوهة تنور غادرته الأكف التي تخبز الحناء للأعياد ... هكذا ينمو الشعر عند شاعرتنا معادلا الغيابات والذبولات بلغة أنثوية مدربة على إنتاج جمال بديل مواز وبلا أي خسارة ، فالشعر عند نورا تومي يتسم بالعناد والصمود حينما نجدها تقول: كسر الجرَّة فاشتاق العسل شكله الرائق الأصفرا وأراقوا الورود ؛ فشعَّ شذاها طريا وليس يباع ولا يشترى نورا تومي تبدأ من الخسارات لتوصيف لحظات الانتصار كي تتلذذ ابتداء ً من اللغة في قطف مسافة الحرمان لصالح وجودها، وهذا ما تشي به في المقطع الشعري أعلاه مفردات من مثل ،، كسر، أراق، يباع ، يشترى ،. الأمر الذي يصل بنا إلى نشوة تلق لا علم لنا بسرها ليتحقق من كل هذا معنى الشعر. إذن الشاعرة تسلك بإصرار وجودي طريق الخسارات لإحصائها ومن ثم محوها مرة واحدة : يأتيك الصباح بنعي أغنية و يصطحب المساء قصيدة ماتت ولوحات ... كأن قطارهم اوقف عن البوح محطتهم... كأن قطارنا .... قد ف ا ت هذه هي أمكنة الشعرية ..مراقبة صباحات قد أُجهضتْ أغانيها أو مساءات غادرتها قصائدها حد الممات ، أو حتى قطارات راوغتْ سكتها وصولا لإنخذال لا حصر له . الشعر إذن يسكن هنا في هذه الذوبانات لجليد لا وجود له ولعائدين بقطارات أرواح لا وجود لها أيضا . وحينما تفكر الشاعرة بالامتلاء في سلال اللغة نجدها تبدأ من الفراغ تساوقا جماليا لإحداث دهشة التحقق الشعري المصنوع بعناية فائقة: سلالهم فارغة ، ومتهمة بإخفاء العنب ...... قبضاتهم أيضا.. وإن امتلأت بالريح... ! هكذا تتمسك الصوفية الخالدة بأبتعادها الخالد عن الشيء والمادة والإيمان بالأثير والفراغ والعزلة سببا مناسبا للوجود . وفي أكثر أحلامها عن الحضور / حضور المحبوب ؛ كانت لا تترجى شجرته أو أثماره أو انغراسه ؛ بل راحت ْ تناجي ظلاله أو فكرته يا لها من ماهرة في تغييبه لحصاد لحظة شعرية لأجله : لست ُ وحيدة ً معي بعض ظله قصصته من صدر القميص وحينما أدركت أنه مرتبك ؛ أخفيت قطعة الظل بكم معطفي وانسحبتُ ثم تذهب به « حبيبها» بعيدا في طريق خلاصة من مادته وصولا به إلى المعنى الذي تريد : أريد لك أن تشيخ سريعا مثل قمر في نهار هكذا بسرعة كي تتفتح أوراقك في عالم آخر..... لا يضمني عالم من وضوح ساعتها سأستريح من الركض... ! كل الدلالات تشير هنا إلى رغبة الشاعرة في الارتماء بحضن الأثير فحتى لو شاخ الحبيب / قمرا في النهار لما وجدتها فهي السكون والإسترخاء الصوفي بعيدا عن تسابق العناصر الذي يُخرج اللغة من أن تسكن عالمها الشعري. ولأجل أن نؤكد انشغال شاعرية تومي بالممحو وبغير المرئي وغير الملاحظ ستكون قصيدتها ، لوحة بورخس، خير شاهد على ما نقول: القتيل أنت َ وحدي من يعرف هذا رسمك بورخس في الظل ولوَّنكَ باصباغ سود... همس َ : سأخفيك عن أنظارهم ثمة قتيل يعني محوا وإلغاء ً ثمة وحدة تعني عزلة وانقباضا ثمة إخفاء عن الأنظار ، أي مهيمنة شاعريته ضربت أطنابها على سعي الشاعرة بالوجود بشكل مخالف لما يبدو عليها في الواقع المعيش ؛ من هنا لنا أن ندرك مدى اللحمة الإبداعية بين الرؤية الشعرية والعناصر اللسانية في المشروع الشعري للمبدعة تومي وهناك المزيد من الشواهد على هذه الوحدة التي أقل ما يقال عنها إنها مولدة شعر بامتياز.