يجب التنويه، تقديرا لفضائل الآخرين علينا، بالترجمة السورية المميزة لنجمة، وهي ترجمة بذلت فيها جهود مركبة لنقل الحكاية والطرائق المعبرة عنها، من حيث السرد والمعجم والدلالة والجانب اللساني والقدرة على الاستيعاب. لذا، علينا، من هذه الناحية، عدم إغفال مزايا الترجمة المشرقية، عرفانا بما قدمته للقارئ العربي. وإذا كانت هناك اختلافات بين الترجمتين السورية والجزائرية، فإنها، من منظوري، طبيعية، إذ يتعذر على أيّ كان، مهما كانت قدراته، أن يكون أمينا ودقيقا، بالمفهوم المتواتر في بعض ما جاء في نظرية الترجمة، وفي نقد الترجمة، أو في بعض النقد المتكئ على الأرائك، أي ذاك الذي لا يواجه الكتابة بقدر ما يتحدث عن الواجبات، دون أن يقوم بواجبه في مواجهة النص بلغة ثانية. لماذا الترجمة وكيف؟ قبل أن يعاد طبع رواية « نجمة « في بيروت عام 2013، بالتنسيق مع منشورات الاختلاف في الجزائر، مشكورة على العناية، كانت هناك فكرة مشتركة ساهمت فيها دار نشر عدن بباريس، والمعهد العالي العربي للترجمة، ومنشورات الاختلاف، ووزارة الثقافة، ثم دار العلوم ناشرون في لبنان التي اهتمت بالطبعة الثانية. وأمّا السبب في إعادة الترجمة فيكمن في محاولة توطين الرواية، وهذا أمر غاية في الأهمية بالنسبة للقارئ، إن لم يكن أحد الأهداف القاعدية للمبادرة الجزائرية، رغم ما كان يكتنفها من تعقيدات كثيرة، إضافة إلى عامل الوقت الذي اقترحته الوصاية. ويتمثل هذا التوطين في تبيئة الرواية، أي في إعادتها إلى بلدها وسياق إنتاجها وهويتها السردية الممكنة، ومن ثمّ البحث عن الطريقة المثلى في التعامل مع عناصر كثيرة من شأنها أن تعيد إليها جنسيتها: الحقل المعجمي، الجملة السردية، العلامات الدالة، الأساليب، مرجعيات النص، كيفية نقل مستويات الحوارات والحوارات الداخلية، لغويا وبنائيا. من هنا كانت مسألة التعامل مع محور الاختيار بشكل مستمر من أجل تقريب أشكال القول إلى المحيط الذي ولدت فيه نجمة: أي الجزائر، ويمكن أن نضيف إلى النقاط المتعلقة بالتوطين أمرين اثنين: أ الاجتهاد في التعامل مع الرمز والاستعارة، وهما سمتان مهيمنتان على الرواية، خاصة. وهناك لحظات انتقال الكاتب من الجملة الحاكية إلى الجملة المحكية، أو من الجملة الناقلة للحالة والفعل، إلى الجملة الشاعرية التي ستصبح موضوعا من الموضوعات، أي هدفا في حدّ ذاته، وليست شكلا لغويا بسيطا يهتمّ بوصف الحالات والأشياء ونقل الأحداث بطريقة مبسطة. إنّ اللحظات التي يتمّ فيها تسبيق الشاعري على الحدثي، هي لحظات يصبح فيها المعنى في درجة أدنى من الشكل، ذلك أنّ الكاتب يهتم فيها بشكل السرد الشاعري، أمّا مضمونه فينتقل إلى مرحلة متأخرة، سديمية، إلى مرحلة من اللبس بحيث يتعذر الوصول إليه في عدة مقاطع، لنقل إلى مرحلة من العمى، كما كان يحدث مع بعض الدادائيين. ب الانتباه إلى المستويات السردية، ذلك أنّ الكاتب ينتقل من النثر التقريري، إلى مستوى شاعري له خصوصياته ومقوماته. وكان هذا الأمر يستدعي تقمص شخصية الشاعر من أجل الحفاظ على المقاطع التي ارتقت بالنثر إلى حالة من نثار الشعر التهويمي، المبهم في أغلبه، أي من ذلك النوع الذي يجعلك تترجم وتعيد الترجمة عدة مرات بحثا عن الدلالة، دون أن تحقق ما تريده بالشكل الذي تريده. ومع ذلك، كان من الضروري احترام خيار الكاتب، لأنّ ذلك لم يكن مجرد ترف ذهني لا وظيفة فنية. كان بمقدورنا، فيما يتعلق بالجانبين المعجمي والبنائي، استعمال صيغتين مختلفتين في ترجمة الجملة الأولى من الرواية كنموذج تمثيلي، وغيرها من الجمل، وهما: هرب لخضر من السجن، أو فرّ لخضر من السجن، إضافة إلى: فّر لخضر من الزنزانة، وهرب لخضر من السجن، ومن الزنزانة هرب لخضر، إلى غير ذلك من الممكنات المتاحة على محور الاختيار. بيد أنّ ذلك يبدو، بالعودة إلى سياق إنتاج الرواية، بعيدا عن المتداول، لذا فضلت استعمال: لخضر هرب من الحبس، وهذي طريقة من الطرق الممكنة، وهي ليست عامية، كما كتب بعضهم حول هذه الترجمة. إنها جملة فصيحة، كبقية الجمل الأخرى، لكنها أقرب إلى التعبير العامي المتواتر. ربّما كان ذلك سببا في أشكلة الأمر على بعضهم. من الواضح أنّ في الجملة الأخيرة متغيرات بنائية ومعجمية، لقد تم تقديم الفاعل وتأخير الفعل، كما تمّ استبدال كلمتي سجن وزنزانة بكلمة حبس، وهي الكلمة المتداولة في المجتمع الجزائري، وفي الشرق، المنطقة التي ولد فيها كاتب ياسين، وفي الجهة التي جرت فيها الأحداث: قسنطينة، عنابة، قالمة. إضافة إلى ذلك فإنّ الجزائري، والشمال إفريقي عامة، لا يبدأ جملته بالفعل، بل بالفاعل، ما عدا في حالات نادرة، كقول: بلغني أنّ، أو سمعتهم يقولون. وذاك ما سعيت إلى تحقيقه في حدود ما أتيح لي من خيارات وإمكانات تعبيرية وبنائية. هناك، إضافة إلى ما تقدم، مشكلة الجملة الطويلة، أو الجملة التي عرفت مع الرواية الجديدة في الغرب وفي أمريكا: فولكنر، مارسيل بروست، وكاتب ياسين لاحقا. وهي تتميز بالتقليل من علامات الوقف، أو بالاستغناء عنها أحيانا، او بتسريع السرد إلى أقصاه. ما يطرح إشكالية بنائية وأسلوبية، إضافة إلى خرق القواعد العربية في حال التعامل حرفيا مع النص باللغة الفرنسية، أو إمكانية تقديم ترجمة ملتبسة، كما حصل مثلا، أثناء ترجمة كتاب فنّ الشعر لأرسطو من قبل أبي بشر متّى بن يونس، عندما رغب المترجم في التعامل الحرفي مع البنى والتراكيب. لقد لجأت، كما تفرض قواعد اللغة العربية ذلك، إلى تفكيك النص وإعادة بنائه أحيانا لينسجم مع القواعد ومقوّمات الجملة العربية، كما هي معروفة في النحو والصرف، دون الإخلال، قدر المستطاع، بالسرعة السردية، أو بالبناء القاعدي، مع أنّ الأمانة، من هذه الناحية، تبدو مستحيلة بالنظر إلى خصوصيات اللغتين: الفرنسية والعربية. سيقول القارئ إنّ هناك خيانة للنص القاعدي، وهذا صحيح. لكنّ الخيانة، في كثير من الترجمات العالمية، هي حفاظ على التراكيب والمعنى والدلالة، أي أنها جهد إضافي يقوم به المترجم في سياقات عينية لا يمكن تفاديها حفاظا على النص ودلالاته. إنّ خيانة من هذا النوع، من منظوري، هي خيانة تدخل في جماليات الترجمة. وإذا كان هناك من يتحدثون عنها، بالمفهوم الساذج للكلمة، فإن الأمانة الوحيدة التي يمكن تحقيقها، دون أيّ عناء، هي عدم ترجمة ما يكتبه الآخرون. الخيانة تبدأ مع بداية التفكير في الترجمة. تلك هي الحقيقة. قد يجد القارئ عدة خيانات في نقل نجمة إلى العربية، وأتصور، أنها كانت الطريقة الوحيدة لتقديم نص قابل للقراءة، صحيح بنائيا، وقريب من المعنى الذي أراده الكاتب، ومن الحالات الثقافية أيضا. إنها حتمية. أمّا لو حدث أن تمّ الاعتماد على نقل آمن على كافة الأصعدة، الأسلوبية والتركيبة والنحوية والبنائية، لما كان هناك معنى، ولتمّ خرق المعايير بتقديم نص غير قابل للقراءة. قضية الحوار والعامية: فضّل بعضهم، نقدا لترجمتي، أن أستعمل الدارجة في التعامل مع الحوار والمونولوج. لكني لم أقم بذلك، إنما سعيت، بعيدا عن الأدلجة والمنظورات التبسيطية للعمل الفني، إلى تقريبهما من العامية المحلية، دون الخروج عن الفصحى. وأما الأسباب فيمكن إيجازها فيما يلي: أ وردت الحوارات في النسخة الأصلية بلغة فرنسية معيارية، راقية جدا أحيانا، رغم أنّ الشخصيات من أوساط شعبية متواضعة. وليس بالعامية كما يرغب بعضهم. لذلك حافظت على الجانب المعياري للغة، تماما كما فعل الكاتب مع شخصياته. والواقع انه كان كان يجب أن نسأل كاتب ياسين عن هذا الخيار اللساني، وليس المترجم. ب قد تطرح العامية الجزائرية مشكلة في القراءة على المستوى المحلي بالنظر إلى التعدد اللهجي وتعقيداته. ج ربما ساهمت الدارجة في الحدّ من انتشار الرواية في الوطن العربي، وذلك إساءة لها وللكاتب الذي أرادها بلغة معيارية، مشتركة بين القراء. د يمكن استعمال الدارجة، استثناء، في ترجمة وظيفية، وفي سياق مخصوص، كحال المسرحة مثلا. ملاحظة: أتصوّر أنه من المهم تخليص رواية نجمة من السياسي والأيديولوجي والنفعي والشفهي وترك المجال للأكاديمي للقيام بدوره الموضوعي في التعامل مع هذا المنجز، ومع الترجمة في آن واحد. ذلك أنها استثمرت بشكل غير أدبي من قبل عدة جهات لم تطلع عليها. نجمة ليست أحزابا ومللا ونحلا، وليست تكتلات، أو تكريسا للأيديولوجي المنفّر على حساب الفني، وهي ليست مسألة لسانية أيضا. إنها رواية بحاجة إلى الكشف عن تقنياتها وقدراتها السردية والوصفية والشعرية والبنائية واللسانية، ذاك هو الجوهر الثابت. قفلة: تعدّ ترجمة نجمة، كأيّ ترجمة أخرى، مقاربة من المقاربات الممكنة. وأتصوّر أني لو أعدت ترجمتها لقمت بعمل مختلف نسبيا، ولو استطعت ترجمتها بشكل راق لما وصلت إلى الترجمة المثالية التي أرغب فيها لأني أرى، كأي مترجم آخر تعامل مباشرة مع النصوص، أنّ الترجمة الدقيقة، والنهائية تتمثل في نقل النص بلغته الأصلية، أي في عدم ترجمته إلى أية لغة أخرى: الأمانة الكلية لا توجد سوى في المثل التي لن تتحقق أبدا، إنها شيء من الطوباوية.