أعتبر التعدد اللغوي في النص شكلا من أشكال العامية، وأمّا التفكير في الكتابة بالدارجة، أو بإدخال عدة لغات في العمل نفسه، فليس موضوعا جديدا في سوق السرد، ذلك أنّ الفكرة تعود إلى عدة شعوب وأفراد فكروا في المسألة بشكل متقدم، بعيدا عن الاستثمارات السياسية والعرقية. هناك من اعتقد أنّ الكتابة بهذا التنويع، تقرّب النص من القارئ، وهي التجربة التي عرفت في بعض الكتابات العربية قبل عقود، على الأقلّ فيما تعلق بورود حوارات عامية في المتون السردية، قبل أن يتمّ التراجع عن الفكرة لفشلها في جعل الكتاب جسرا بين المرسل والمتلقي، وبين الكتابة والترجمة، وبينها وبين الشعوب الأخرى التي تتعامل مع لغة معيارية لها قواعدها ونحوها ومعجمها وضوابطها. يجب التأكيد على أمر يبدو غاية في الأهمية: من يعتقد أن العربية لا تكفي للتعبير عن المحيط والمشاعر والموضوعات والممنوعات والحداثة لا يعرف تراث العربية ومعجمها. إننا، نحن الكتّاب والباحثين، لا نفقه سوى جزء يسير من العربية. لهذا لا نفهم ما كتب في الفلسفة والمنطق والبلاغة وعلوم اللسان، وفي التصوّف بأنواعه. ما يستوجب، بالضرورة، إعادة النظر في قدراتنا المعجمية. قلة قليلة منّا تحيط بنظام الدوال والمدلولات وتعرف أسماء النباتات والجماد والحشرات والحيوانات والطيور والأسماك، مع أنها متواترة في المعارف القديمة لأنها كانت جزءا من التعامل اللغوي السائد. إنّ الحديث عن تجاوز اللغة أمر مقبول وضروري في مقامه العقلاني، لكننا لا يمكن أن نتجاوز ما لا ندركه وما لم نتمثله قبل التفكير في محوه، والواقع أنّ ذلك لا يطرح مشكلة لسانية فحسب، بل مشكلة أخلاقية من حيث إننا نتعالى على شيء لم ندركه، ومع ذلك نرغب في تجاوزه، أو في إلغائه من ممارساتنا اللسانية والسردية والخطابية. الكتابة بلغة ما هي نوع من التأليف في إطار قانون جامع له مقاييس وضوابط تشكلت مع الوقت وغدت قاعدة يتمّ الاحتكام إليها قصد الإفهام والفهم، أي في إطار ثنائية البيان والتبيين، تماما كما إشارات المرور التي تنظم السير وفق علامات متفق عليها دوليا، لذا، يتعذر على المجتمعات الصغيرة أن تبتكر قانونا مروريا خاصا بها، لأنه سيبدو عابثا، وغير ذي معنى. وأمّا إدخال الدارجة ومختلف اللغات في العمل الواحد، فمسألة ظرفية ومتحولة من مكان إلى آخر، ومن وقت إلى آخر، ومن تداول إلى آخر، كما يرى ذلك علماء اللسان. لذا من المتعذر أن نجعل من المتحول المستمر قاعدة نؤسس عليها بفعل حركيتها الدائمة، إضافة إلى عدم خضوعها لأيّ قياس يمكن أن يصبح موجّها للقراءة، أو ضابطا واضحا يوحد ما بين المرسل والمتلقي، ما بين الكاتب والقارئ الفرضي. القارئ العربي ليس ملزما بفهم عامية اليمن أو السودان أو مصر، وليس لنا، نحن الجزائريين، أن نفهم دارجة الشرق والغرب والشمال والجنوب، ولا مستويات الدارجة في الشرق، أو مستوياتها في قرية واحدة في الغرب أو في الشمال، أو على مستوى البيت الواحد، ولسنا ملزمين أيضا بتعلم عدة لغات لنفهم نصا موجها لقارئ معرب، ودون مسوّغات مقنعة. يبدو الأمر ضربا من اللاجدوى، شيئا ساهمت في فرضه منظورات وأيديولوجيات، وهو لا يتعلق أصلا بالكتابة والنص. هل يوجد في فرنسا كتّاب يؤلفون بالدارجة؟ بأية عامية وتداخلات لغوية سنكتب؟ يلزمنا عدة مترجمين لنفهم رواية واحدة بمستويات من الدارجة، وبتلوث لغوي يتعذر ضبطه وتمثله، وسندخل في فهم نسبي لكلّ منجز يكتب خارج حدودنا اللهجية المختلفة من حارة إلى أخرى، ما يؤدي حتما إلى كتابة نصوص بحاجة إلى جهود مضاعفة لفهم لاتنيتها وفرنسيتها وإيطاليتها وإنجليزيتها، وستكون أقل انتشارا وحضورا، ليس على المستوى العربي أو الدولي فحسب، بل على المستوى المحلي أيضا. إنّ مجرد التفكير في كتابة رواية بالعامية، أو بتداخلات لغوية غير ضرورية، هو تقزيم للإبداع، لمفهومه ووظيفته. أي أننا سنساهم، بشكل أو بآخر، في استحداث دويلات سردية لها قوانينها اللغوية التي وجب علينا أن نخضع لها، وربما أصبح كل شخص دولة سردية مستقلة من حيث إننا لا نستطيع، كلسانيين ونقاد، إجبار أيّ كان على الاحتكام إلى القاعدة العامة التي تضبط المنظومة اللسانية. إذا كنّا نرغب في ذلك فما علينا إلاّ أن نستعد لتوديع السرد والمعنى. ومع أنّ هذه الفكرة لن تستمر في الوقت، فلا يمكنها أبدا أن تحقق نتيجة، أمّا النتيجة الوحيدة التي يمكن أن تحققها بتفوق استثنائي فهي كتابة نصوص لا تقرأ، أو تقرأ ولا تفهم.