في الديمقراطيات العادية تتكفل الأحزاب السياسية بمهام تأطير المجتمع سياسيا من خلال انفاتحها على جميع الفئات الاجتماعية, بحيث يجد كل مواطن حزبا أو أكثر تتوافق برامجها السياسية و توجهاتها الإيديولوجية و مشاريعها الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية , مع طموحاته الشخصية , بل يجد المواطن في هذه الديمقراطيات مجالا واسعا للاختيار حتى ضمن العائلة السياسية الواحدة , ففي فرنسا على سبيل المثال يجد الفرنسي ذا التوجه أقصى اليمين 14 حزبا يمكنه اختيار الأنسب لميوله السياسية , و نفس الخيار متاح لذوي الميول اليمينية عبر 11حزبا , و وسط اليمين من خلال 10 أحزاب , و الوسط الممثل ب9أحزاب ؛ و وسط اليسار ب8 أحزاب ؛ و اليسار ب11حزبا ؛ و أقصى اليسار و تفرعاته ب 18 تنظيما سياسيا . وإلى جانب هذه الأحزاب هناك الأحزاب الجهوية و المحلية و الفيديراليات الجهوية و الشعوب المتضامنة لمن يفضل التفرغ للنضال السياسي على مستوى محيطه المحلي , و كل هذه العائلات السياسية انبثقت عن إرادة مناضلين سياسيين لتوفير فرص تمثيل معظم الحساسيات السياسية في أبعادها الوطنية , الجهوية و المحلية . و لكن هذا المجال الواسع للممارسة السياسية , يقابله نظام صارم في آليات الترشح للمناصب المنتخبة , و خاصة منصب رئيس الدولة , حيث اضطرت فرنسا نفسها إلى تشديد إجراءات الترشح للاستحقاقات الرئاسية بإلزام المترشح الحصول على تزكية 100 منتخب , وتم رفع هذا العدد بعد ذلك إلى 500 تزكية موزعة على أكثر من 30 مقاطعة على ألا يكون عشرهم منتخبين في نفس المقاطعة أو الجماعة المحلية , و مع ذلك تسرب عبر هذه الآلية بعض الترشيحات لشخصيات اعتبرتها النخب الفرنسية حطا من شأن هذا المنصب السامي في الدولة , مثل إعلان كوليش الممثل الكوميدي الهزلي عن نيته في الترشح للانتخابات الرئاسية لسنة 1981 و تعرضه لضغوط شديدة للتخلي عن ترشحه , رغم حصوله على تأييد 16 % من الفرنسيين في استطلاعات الرأي آنذاك . و للعلم فإن الهيئة المنتخبة التي يخولها الدستور الفرنسي (كمثال) تزكية المرشحين للترشح لمنصب الرئاسة لا تضم سوى حوالي 40 ألف منتخب , و بالتالي أقصى ما يمكنها تزكيته من المترشحين لا يزيد عن 80 مترشحا , و مع ذلك يظل العدد مرتفعا بالنسبة للأحزاب السياسية التي يزيد عددها عن هذا الحد . الانتخابات الأولية بين مرشحي الأحزاب ميزة ديمقراطية و لأن الغربلة الدستورية و القانونية لم تكن كافية لترشيد عدد المترشحين , أوجدت الأحزاب من جهتها آلية «الانتخابات الأولية التي تتيح لكل عائلة سياسية اختيار مرشحها للرئاسيات» , و هو ما صعب من فرص الترشح الحر في الديمقراطيات التقليدية , خلافا لما هو جار في بلادنا حيث تحولت الأحزاب إلى منصات للترشح في الانتخابات التشريعية و المحلية بسبب صعوبة جمع توقيعات الناخبين , أما الاستحقاق الرئاسي فيتزاحم عليه المترشحون المستقلون , لأن الأحزاب إن ترشحت , فالترشح سيكون من حظ رئيس الحزب , و لأن رئاسة الحزب محتكرة من طرف نفس الشخصيات , فلا مجال لأن يطمع مناضل غيرهم في الترشح تحت مظلة الحزب , ولذا يجرب الحزبيون و المستقلون حظوظهم خارج الأطر الحزبية . و كنا قد قدمنا فرضية في موضوع سابق حول ظاهرة غلبة الترشح الحر على حساب الترشح الحزبي في الرئاسيات على وجه الخصوص, و مفاد هذه الفرضية الأقرب إلى الصواب في تفسير هذا الخلل , هو أن التعددية السياسية في البلاد لم تنشأ منذ البدء لهذه المهمة؛ أي مهمة تأطير الحياة السياسية , و إنما جاءت نتيجة عملية قيصرية لامتصاص الاحتقان الاجتماعي الناجم عن انسداد الآفاق الاقتصادية الذي كان وراء أحداث 5 أكتوبر 1988 .أي أن المطالب كانت اجتماعية اقتصادية , و المكاسب كانت «سياسية» تمثلت في تعددية حزبية (فوضوية إن جاز التعبير) كان من تبعاتها مآسي العشرية السوداء , و ساحة سياسية مكتظة بأحزاب ذات وظائف موسمية مرتبطة بالاستحقاقات الانتخابية. فكيف لنا أن نستغرب في مثل هذه الظروف لجوء مواطنين من مختلف الشرائح الاجتماعية ,إلى دخول الحياة السياسية عبر الترشح لمنصب رئيس الجمهورية مباشرة, و بدون المرور عبر البوابات الحزبية , و بدون التسلح بأبجديات الممارسة السياسية ؟ و قد وصف السيد أحمد أويحيى صور سحب ملفات الترشح للرئاسيات من طرف هؤلاء بالمؤلمة و المؤسفة و اعتبرها غير مقبولة و أكد ضرورة وضع حد لها . وأرجع الأمين العام للأرندي سبب هذه الصور المؤسفة إلى وسائل الإعلام التي ساهمت في التشهير بهؤلاء الأشخاص ورسمت تلك الصورة (- السلبية للمعنيين بالدرجة الأولى و الأخيرة ,لأن المنصب المستهدف يبقى ساميا شكلا و مضمونا –)، مطالبا بإجراءات صارمة حتى لا يتمكن- كل من هب ودب- التقدم لسحب ملفات الترشح , متوقعا في نفس الوقت,» بأن عدد المترشحين الذين سيتمكنون من اجتياز عقبة المجلس الدستوري لن يفوق 10 مترشحين».بمعنى أن الفرز الذي سيقوم به رهان على الفرز الدستوري لإعادة الوازن المجلس الدستوري , سيعيد نصاب الترشيحات إلى الحجم المقبول في الديمقراطيات التقليدية , و لا سيما إذا كانت الترشيحات المقبولة, حزبية في معظمها, أو مدعمة من طرف أحزاب ذات تمثيل جيد في المجالس المنتخبة وطنيا و محليا. و إذا أضفنا عوامل أخرى إلى هشاشة المنظمة الحزبية الوطنية,مثل احتكار ترشيح رئيس الدولة على مدى 3 عقود من طرف الحزب في عهد الحزب الواحد , و عجز أحزاب التعددية الحزبية عن منافسة ذات الحزب , ببرامج سياسية هادفة تعبر عن طموحات الشعب الجزائري و تخطط لبناء مستقبل الأمة على أسس سليمة بعيدا عن الخطابات الديماغوجية التي نفرت الجزائريين من العمليات الانتخابية , و أنتجت مقابل ذلك تنافسا على المناصب الانتخابية التي أصبحت مطمع» كل من هب ودب» حسب تعبير السيد أحمد أويحيى . و عرفنا أن الكثير من المتنافسين على المناصب الانتخابية يجهلون أبسط شروط الترشح مثل شرط السن الذي تم رفض ملف مرشح للرئاسيات بسببه في عهدة سابقة , و مثل التأكد من العدد الحقيقي للتوقيعات الصحيحة الواجب توفرها في ملف الترشح , و عرفنا كذلك الدوافع الشخصية لبعض المترشحين الأحرار الذي وجدوا أنفسهم خارج دائرة السلطة بالتقاعد أو بالإقالة أو الاستقالة ,و سوء تقدير البعض لشعبيتهم و اغترارهم «بشعبية افتراضية على مواقع التواصل الاجتماعي»؛ كل ذلك قد يفسر سبب الصورة المعكوسة لميزان الترشح للرئاسيات بين الأحزاب و الأحرار. و الكرة تبقى في ملعب الأحزاب كونها مطالبة بتنظيم نفسها في شكل عائلات سياسية متجانسة , و إجراء انتخابات أولية لانتقاء أكثر المترشحين شعبية , ليتنافسوا بدورهم على منصب رئيس الجمهورية , من أجل تكريس التقاليد المعمول بها في سائر الديمقراطيات في العالم في مثل هذه المواعيد الانتخابية الهامة في حياة الأمم.