ركض خوسي أورانو في البهو الطويل. لا يدري لماذا كان يحس بأنه مسؤول كليا على أستاذه أنطونيو، مع أن العكس هو الصحيح. فقد كان أستاذه الأساسي. وعلى يده خاض أولى المباريات الاحترافية. منه تعلم كل الأشياء الصغيرة الضامنة للحياة في الحالات الأكثر خطرا. الثور في النهاية حيوان هائج مقبل على الموت، ليس لديه ما يخسره. عندما دخل قاعة التحضيرات الأخيرة، وجد أنطونيو قد ارتدى لباس المتادور الأزرق والمزركش بأسلاك ناعمة بيضاء تشبه موجات هاربة على سطح بحر متحرك. وكان مساعدوه، امرأة ورجلان، يضعون اللمسات الأخيرة على هندامه، ويضغطون على خصره حتى لا يبقى أي شيء زائد يستطيع الثور أن ينفذ منه بقرنيه. رياضة لا تقبل لا لعبة القدر ولا الصدفة. تقدم منه. صافحه. كان أنطونيو في حالة استقامة كلية - مايسترو أنطونيو. أنت الآن جاهز للمعركة الكبيرة. قالت الفتاة التي مسحت على لباسه للمرة الأخيرة، تتحسس النتوءات. - شكرا ماريتا. كله بفضل ملمسك الساحر - تشرفت بتلبيسك سيد أنطونيو. حظ نادر مع سيد حلبات إسبانيا وإشبيليا. أحب هذه الرياضة على الرغم من كل ما يقال عنها. البراعة والقوة ومواجهة الموت بشجاعة. حرب مصغرة. قبل ظاهر كفها اليمنى. ثم وقف باستقامة - مايسترو. قال أورانو. حظ الجمهور الوهراني بك اليوم، استثنائي. أتمنى لك مقابلة كبيرة ومتعة جميلة. المدرجات امتلأت عن آخرها. العد التنازلي بدأ يا مايسترو – الجمهور في حاجة لمن يرفع الأدرينالين فيه. ونحن نوفر ذلك، أحيانا على حساب حياتنا. الثور من منطقة نفار، لهذا سمي نفارو. أحب هذه النوعية الضخمة، التي لا ترحم منازلها ولا ضحيتها. صعب المران لكن وهران تستحق ذلك –سيدي العظيم. أنت سيد الانتصارات، أدين لك بكل شيء . - هل تاريخ مقابلتك في ميكسيكو ما يزال مثبتا؟ - مثبت. ولا يمكن أن أغيره – أحاول أن أحضرها. منازلة كبيرة. ضم خوسي أورانو كفيه وأشبكهما بكفي أنطونيو. قبل أن يخرج باتجاه المدرجات، تمتم بصوت خافت في أذن أنطونيو - حظ سعيد مايسترو. سأكون في المنصة القريبة منك، والمقابلة لك - أراك بعد انتهاء المنازلة. في خضمها لا أرى شيئا إلا أنا والثور والساحة وخيالة الحراسة - أكيد. ثم خرج خوسي أورانو متوجها إلى مكانه في المنصة الشرفية. كانت المدرجات في حالة غليان بالمتفرجين. من زمان لم تشهد هذه العدد الكبير من المتفرجين. الساحة نقية وفارغة من كل شيء. لا حركة فيها. مساحتها بكر، لا خطوة على رمالها. فجأة علت موسيقى إلباسو دوبلي paso dobleلمصارعة الثيران. تصاعدت عاليا. كانت تصل أقاصي مدرجات الكوريدا وتتخطاها، نحو الشوارع المحيطة. منها يعرف المارة أن المنازلة قد بدأت. هي موسيقى الانتصار للحياة، والموت، والنهايات التي لا أحد يعرفها كيف ستكون. كانت ساحة الكوريدا مثل مرآة دائرية ساحرة، في حالة صمت كلي. فجأة فتحت البوابات الخشبية الجانبية على مصراعيها. خرج الثور في حالة هياج. ينطح كل شيء يصادفه في طريقه. خرج أحد المروضين للثور بموليتا (الخرقة الحمراء عادة) لونها بنفسجي، وحاول أن يزيد من هياجه بينما الموسيقى لم تتوقف. التصقت الموليتا بقرني الثور نفارو الهائج، فركض المروض باتجاه أقرب مدخل لتفادي قرني الثور. يبدو أن الترويض الأولي لم ينفع أمام نفارو. التسمية من المنطقة التي ربي فيها. لم تكن المناورة الأولى موفقة. ثم دخل مجموعة زادوا في انفعاله وإتعابه. عوضهم بعدها البيكادور، وفي يده رمح طويل، حاد في الرأس. يأتي الثور نفارو ركضا نحو الحصان الذي كانت تحميه الواقيات، ويحاول أن يهزه بإدخال قرنيه في بطنه وصدره. يحاول عبثا مرة ثانية وثالثة ورابعة وخامسة. الواقيات قوية. وفي لحظة يحدث البيكادور حفرة دامية في ظهر الثور فيسيل الدم غزيرا. بينما يواصل بفارو نطح واقيات الحصان بعنف أكثر ولا جدوى. يكاد يرفعه عاليا لكن الحصان يتوازن بسرعة ويعود إلى وضعه تحت التصفيقات الكبيرة لجمهور مستمتع بالمشهد. تعب البيكادور، بينما ظل الثور في كامل قواه. غادر البيكادور ساحة الكوريدا. ظل نفارو يتأمله، بلا حركة، فقد كان وحده في ساحة الكوريدا. دخل رجل أنيق ووسيم. بلا ملاتو ولا أية واقيات. في يديه رمحين صغيرين ملونين كأنها ألعاب نارية. تأمله الثور للحظات. ثم ناور الرجل وكأنه يهرب منه. تبعه نفارو بسرعة فائقة. تفادى الرجل برشاقة وسرعة ضربة قرنيه، لكنه عندما أصبح ظهر قريبا منه، غرس عليه بسرعة برقية الرمحين الملونين. مرة أخرى اهتز الجمهور لرشاقة الرجل وصفق بقوة. عاود الرجل اللقطة نفسها، وبطريقة مماثلة، فغرس رمحين صغيرين ملونين في جانبيه. تأوه الثور، لكنه واصل الركض وراءه بلا توقف، وبدت خيوط الدم واضحة على ظهر نفارو. ثم غادر الرجل الحلبة بدوره. مرة أخرى يجد نفارو نفسه وحده سيد الميدان. دار قليلا، باحثا عن أية حركة، بلا جدوى. كانت أنفاسه تضيق، ويتنفس بسرعة، بسبب ما بذله من جهود. لقد أصبح الآن مستعدا لخوض منازلة الموت أو الموت. هو يعرف أنه لن يخرج حيا مهما كانت نتائج المعركة، على عكس المتادور الذي يدرك جيدا أن حياته بين يديه، ورشاقته، وحذره أيضا. عندما دخل أنطونيو دي غاليسيا، اهتزت الكوريدا كلها. وقف الجمهور وصفق طويلا قبل أن يجلس ويصمت كليا. حتى نفارو كأنه كان معنيا بالتصفيق فوقف يتأمل استقامة أنطونيو الذي لمع لباسه المذهب تحت أشعة الشمس، في لحظة من اللحظات، التي انعكست أشعتها بقوة على عينيه. تدرجت موسيقى باسودوبلي، ثم توقفت نهائيا. تحرك أنطونيو بحركات مقاسة بالمليمتر. مزحلقا باطن حذائه الخفيف كراقص بالي، على رمل ساحة الكوريدا، خطوة وراء خطوة. ثم فرد خرقة المولاتو بكل اتساعها وحركها بخفة وسرعه. وجه نفارو بصره نحوها، ثم اندفع بكل قواه نحوها. ثم عاودها العديد من المرات حتى بدا التعب على الثور. فوقف أنطونيو في مواجهة الجمهور. والتصفيف يزداد حدة. وقف الثور وراءها كأنه لم يكن معنيا بما كان يحدث أمامه من شدة التعب والنزف على الرغم من ذلك كله، بدت حركات أنطونيو ثقيلة بعض الشيء. ربما كان يحتاج هو أيضا إلى بعض التسخين، لدرجة أن خوسي أورانو كاد أن يصرخ بكل قواه، من المدرجات الأمامية: - احذر أكثر يا أنطوني. أوقف المصارعة واخل سبيل الثور إذا كنت تشعر بأي تعب. أليست تلك نصيحتك لنا دوما أثناء التدريبات؟ الحياة أثمن هدية، يجب ألا نعرضها للتلف مهما كانت المغريات؟ ألم تقل هذا؟ لكن ذلك بدا له مستحيلا، فاكتفى بمواصلة المشاهدة كغيره من الآلاف التي حضرت المنازلة. عندما يدخل المصارع الحلبة لا يمكنه أن يتقهقر إلى الوراء. فقد كان أنطونيو في عمق معركته الكبيرة والشاقة مع كتلة من العضلات تتجاوز ال 500 كيلو. في مثل تلك الحالات لا يسمع المصارع إلا لقلبه. تمتم أورانو ذلك في أعماقه. كان كل شيء يبدو صافيا في الكوريدا. ساحة رائعة، برمل آجوري شديد النظافة. ترتيبات شديدة التنظيم. جمهور كبير، متعاطف كليا مع أنطونيو، جاء من وهران ولكن أيضا من محيطها القريب والبعيد قليلا، مسرغين، ريو دو صلادو، حتى من باريغو حيث تربى خوسي أورانو يقارع الأكباش والثيران الصغيرة التي كان جده يحضرها للكوريدا، وأحيانا حتى للحفلات التي كانت تنظمها الجهة، في البلدية أو في غيرها.