كُرتان .. في قدر الكائن البشري كرتان ..يأتي إلى الوجود فيجدهما تنتظرانه ضاحكتين بلؤم. إنها الكرة الأرضية من جهة، وكرة القدم من جهة ثانية. كلاهما نزقتان لا تثبتان على جهة. كلاهما مدورتان، لا تستقران على ضلع، وكأن على أطرافها وجعا. يأتي الكائن البشري إلى الحياة فيجدهما في انتظاره. الأولى غريبة الأطوار، عليها خرائط ملونة، وخطوط الطول وخطوط العرض. وعليها متاريس وأسلاك شائكة وجيوش جرارة وحراس حدود وحدود مرسومة بدقة وبغير دقة ومسالك عبور صارمة الحراسة تقول الجدة الحكيمة : -الحمد لله..من حكمة التنزيل أن الخرائط والحدود ليست مرسومة بحذافيرها في كتب السماوية . لعله تمرين لمدى قدرة البشر على حب غيرهم من البشر وغيرهم من المخلوقات على الكرة الأرضية. لعله امتحان أبدي للإنسان، لقدرته على التعايش وعلى الاختلاف، وتأقلمه مع المجموعات البشرية التي انقسمت منذ آدم أو منذ نوح عليهما السلام، كما تنقسم الخلية. كرتان. قدر الإنسان. الأولى يلعب بها الزمن في كون لا متناهٍ من الأجرام والمواكب والنجوم، يركلها فتدور في الفلك، أما الثانية فيلعب بها الإنسان، أو تلعب به. نقيضتان . كرة الأرض عليها حدود قد تمحوها كرة القدم. متكاملتان. تفرق الأولى حين تجمع الثانية الشمل وتجمعه الثانية حين تفرقه الأولى. تعتمد الأولى على علم الفلك، والفيزياء الفلكية لدراسة ظواهرها وتتبع سلوك الأجرام السماوية في الفضاء، وعلى ترسانة من علماء الكون، والكواكب، والمجرات. وللثانية علماؤها وفزياؤها ومهندسوها ومخططو خرائطها.كما الأرض، يُقسَّم الملعب مستطيل الشكل، حسب القانون رقم واحد لكرة القدم بتسعين إلى مائة وعشرين مترا طولا، وخمسة وأربعين إلى تسعين مترا عرضا؛ لكن الملعب يستلف فكرة الحدود من الأرض، فيقسم رمزيا إلى خصمين أو بلدين أو قارتين. يتنافسان في مكان خاص. فكرة بناء الأمكنة بدأها الإغريق والرومان لتصل إلى البريطانيين، لكل حدوده و لضربة الجزاء رمزية تأديب الخصم إذ يتعدى حدوده ويقترف الخطأ في المكان الخطأ. ولأن الإنسان، هذا الكائن البشري الغريب، كثيرا ما يستيقظ فيه الجموح عندما يعود فجأة إلى طبيعته الأولى التواقة للحرية والحلم والحب، وأغلب الظن أنه لا يدري كيف ولماذا..كل ما يدريه هو أنه يعود إلى إنسانيته الأولى بعد أن يقشرها من الخلايا الميتة العالقة بها، فيخلط أوراق السياسي المطوية بحرص شديد، وصرامة. وفي دهشة تراه يندفع ليساند من ظلت المواثيق الرسمية وغير الرسمية تحفر بينهما هوة العداء. . -. نعم.. الكرة/ اللعبة، قد ترفع الجسور فوق الهاويات التي حفرتها السياسة وقد تفجر نبع المحبة من جديد . هذا الموسم من كأس الأمم الإفريقية في دورتها الثانية والثلاثين، كم من دموع فرح أو حزن امتزجت بدقات قلوب مُحِبة، انهمرت من عيون تتعانق وقلوب استيقظت فيها الأخوة من جديد. حسمت اللعبة الكروية الأمر أمام اللعبة السياسية، فشاهد العالم كما المغربي يناصر الجزائري ويحتفل لانتصاره والجزائري يناصر الفريق المغربي وينشد خاوة خاوة. شاهد العالم الجمهور المصري المتفرج مشجعا الفريق الجزائري، والشارع التونسي يحتفل بانتصار الفريق الجزائري ويسعد الجزائري بغلبة الفريق التونسي ويحزن الشارع الجزائري لخروج الفريق المغربي والفريق المصري من المنافسة، ويحتفل الشارع في موريتانيا كما أخبرتني صديقتي الشاعرة الموريتانية مباركة البراء ويهتز فرحا لغلبة الفريق الجزائري. الحق يقال ..إنها الطبيعة الإنسانية الجميلة تعود من الباب الكبير بعد أن أُغلقت في وجهها النوافذ والمنافذ. على الرغم مما نلاحظه في تطور فنون علم الحرب، وبحوث تكتيكاتها، وتخطيط استراتيجياتها، ونَزعات التفرقة، والنّزاعات، والصراعات. ومهما تكون النتيجة لهذه الدورة الثانية والثلاثين لكأس الأمم الإفريقية، إلا أنها تحقق موعدا عظيما للمحبة والإخاء بين أبنائها، ليكتشفوا جواهر أنفسهم وبعضهم بعضا من جديد، وليقدموا للعالم و للذين ظنوا أنهم سيزجون بهم في ملعب الكراهية، درسا واضحا في التنافس الشريف، والمحبة بين أشقاء ينتمون إلى قارة كثيرا ما ظلمت، واستعبد أهلها، واستغلت خيراتها. وليذهلوا العالم بتأكيدهم مرة أخرى أن الأفارقة ليسوا بوحوش كما يشاع، وليخبروه أن كرة القدم التي تشبه كوكب الأرض في كثير من خصائصها، مجرد لعبة حروب صغيرة، تجنب الحروب الكبيرة التي تهدد الجميع بالفناء، وأن جهالة الغباء ذهبت مع حرب داحس والغبراء.