بات واضحا للعيان أنّ البورجوازيات السردية والشعرية والسياسية والأكاديمية، شأنها شأن الأوليغارشيات الفنية بشكل عام، على اختلاف الملل والنحل والأهواء والنزعات، ظلت، على مدار سنين، كائنات من ورقرخو، أو ظواهر صوتية مختبئة في البلاغة والنحو والصور والمناهج وطبقات الأخيلة الأرستقراطية، بمنأى عن الصدع، كونها مرتاحة في حيادها، أو مكتفية بذاتها في ممالكها الحالمة التي تأسست على الخوف والطمع، وعلى الاصطفاف في الطابور أمام باب القصر، والأمثلة كثيرة عن هؤلاء الوصوليين الذين ضج بهم المشهد الثقافي الجزائري، والعربي عامة، قبل أن يحتلوا البلاتوهات التلفزيونية بفائض من الاستهتار ليفتوا في كل شيء من أجل تبرئة الذمة. لم يسهم هؤلاء جميعهم، ما عدا استثناءات مضيئة جدا أدانت الفساد، في صناعة التاريخ لأنهم لم يكونوا جزء من الواقع المعيش، ولم يؤثروا فيه بخطابهم المتعالي الذي ذهب ضد قناعاته ومعتقداته، بنوع من السخرية المغالية، ومن النقد المنفصل عن الأنساق القائمة. لقد اعتكفوا في مداراتهم وكتبوا لأنفسهم وأيديولوجياتهم وما يمليه الآخر، مكتفين باستيراد الآراء والنظريات والمصطلحات والأشكال، دون أي اعتبار للعقل التداولي، لرغبات الأمة التي أريد تصديرها إلى منظومات فكرية وافدة من منجز له مميزاته وشخصيته المستقلة. لقد كان المثقفون والكتاب، في واقع الأمر، يقاومون المواطن ويجردونه من كلّ سند يتكئ عليه في غربته. لذا وجدت مواقع التواصل الاجتماعي، في ظل هذا التغريب المغالي للشخصية، وفي ظل الاستلاب الطوعي، مجالا للحلول محلهم إذ غدت قوة تواصلية بديلة،وموجهة للرأي العام، متجاوزة الإعلام والجامعة والرواية والقافية ومنظورات الأدباء والشعراء المكتفين بالغزل العذري في واقع سديمي، أو بالموضوعات الوافدة من تقاليد أدبية ذات علاقة صدامية مع الخصوصية الموروثة من قرون، أو تلك التي تشكلت عبر الوقت وغدت أجزاء من الهوية، سواء اتفقنا معها أم لم نتفق. لم يكن هؤلاء الكتاب ذرائعيين سوى في ما يعنيهم، ولم ينصتوا لصوت الشارع ومكوناته القاعدية، بصرف النظر عن مستواه الثقافي وطبيعة تفكيره ونوعية مطالبه كقوة لافتة. لقد كانوا أصواتا لأمزجتهم، وللأشكال الثقافية الوافدة من مجتمعات لها لغتها ومعتقداتها. كما لم يدرك هؤلاء، رغم تجاربهم وثقافتهم العالية، أنّ هناك سياقات مخصوصة تستدعي التنازل عن بعض قناعاتنا الفنية والاستعارية والفكرية لفائدة من نخاطبهم بنصوصنا وحواراتنا، إن كنا نرغب في أن نكون حاضرين تاريخيا وفاعلين، وليس مجرّد أصوات من مجرّات نائية تكمن علتها في وجودها. لقد كان فلاديمير لينين يردد: يجب تقريب الأدب من الشعب وتقريب الشعب من الأدب. ربما انتبه إلى المعضلة فلخصها بجملة راقية، ودالة على هذه العلاقة الخالدة بين المرسل والمتلقي، وهي تختزل مفهوم التكامل، ومفهوم العقد، كما ورد في التداولية. لقد بدت مواقع التواصل الاجتماعي، في ظلّ هذه الإمبراطوريات الأدبية والثقافية المنسحبة من الشأن العام، المكتفية بالحاسوب والمكتب، أكثر براغماتية من مختلف أشكال التبليغ المتاحة في الجزائر، سرديا وشعريا وإعلاميا ونقديا. ما يعكس إخفاق المنظومة الثقافية برمتها في استيعاب البنيات الأساسية المشكلة لمجتمع مخصوص، غير منسجم مع مذاهبها، وغير معني أساسا بتوجهات هذه النخب ونقاشاتها الميتافيزيقية الموغلة في التجريد، وفي عوالم المثل والجماليات المستنسخة بشكل إملائي. لقد أسهم هذا الوضع المربك، رغم بعض صحته المؤكدة، في تقوية الفجوة بين النخب والمجتمع، أو بين عوالم الجمل والنظريات والأخيلة، وبين المحيط الخارجي الذي كان يعيش حالات معقدة، غير تلك التي بأر عليها الأدب والثقافة في جدلهما الكبير، السريالي أحيانا، والعبثي أحيانا أخر. أشركت مواقع التواصل الاجتماعي إذن، كخيار نفعي فرضه إخفاق أنظمة التواصل في أداء مهامها التنويرية، مختلف الطبقات والنزعات والمستويات في العلامة والرأي، مساهمة بذلك في الكشف عن الاهتمامات النووية لمجتمع متشظّ، مكبوت، مختلف عن انشغالات الكتب العارفة، آيل إلى السديم بفعل الاستبداد السياسي والانهيار الاقتصادي والأخلاقي واستهتار النخب على مدار عقود، بما في ذلك النخب اليسارية والعلمانية المستنيرة التي عزلت نفسها بنفسها عندما لم تعمل على تطوير طرائقها الصنمية في الطرح والتعامل مع القضايا الاجتماعية والعقائدية التي كانت تستدعي كفاءة أعمق، وسبلا أخرى للإقناع، بحسب الظرف والمقام. الشيء الذي لم تسع لتحقيقه بفعل اتكائها على قناعات إقصائية، يقينية، أحادية، ومنتهية، كما لو أنها كانت ترغب في محو الجميع لتجسيد رؤى مقلوبة يرفضها الجميع، لتتقاطع بذلك مع الأصوليات الدينية المتشددة ذات المرجعيات الواحدية. لقد بدت هذه الوسيلة المشتركة أكثر انفتاحا،ومتنفسا جماعيا لمن لا حظ له في التعبير عن قناعاته وبؤسه،وسندا للحراك لأنها انطلقت من أقبية المجتمع ودهاليزه وهمومه المكدسة من سنين، كما كان يفعل الأدب الملتزم في تعامله مع الموضوعات الإنسانية، وفي خياراته الاستراتيجية والرؤيوية التي جعلته مشاركا، ومحفزا للتغيير. مع أننا لسنا بصدد الدعوة إليه بالنظر إلى فجواته الكثيرة، أو بالنظر إلى سقوطه في الدعاية لبعض الأنظمة الشمولية وجماعات الضغط، وذلك بالتخلي عن أولوياته، وعن حقيقته الأدبية كفنّ مستقل عن الإملاءات الضاغطة، وهو ما قام به بعض أدبنا، سواء بصمته المفرط، أو بنصرة النظام المتداعي الذي كان يموّله بعدة طرق قد يكشف عنها التاريخ. سيتضح لاحقا، بقراءة حيادية لما ينشر من آراء ومقاربات متفاوتة في الفضاء الأزرق، أنّ هناك، في قسم منه، وعيا بالتاريخ والذات والحقائق والجزئيات، وحلولا كثيرة لمأزق السياسة والاقتصاد والأدب والفلسفة وعقدة الفرد المتعالم، النقيّ، الملهم، المنزه من الزلل، الكائن الإلهي، ذاك الذي مثله الشاعر والروائي والمثقف والنخبوي الجالس على قمة جبل الأولمب يتفرج على حرائق الوطن المنهار. كما لو أنّ هذه الوسيلة، على فظاظتها،في بعض الحالات الشاذة، أدركت ما يحتاج إليه الفرد فاستثمرت في جزء كبير مما يعنيه: الحديث عن انشغالاته كمنطلق،وكجوهر ثابت. هكذا تقهقرت الكتب العارفة إلى درجة أدنى بسبب ثقافتها المفارقة، وتدنت المقروئية لصالح القراءة البصرية الجديدة. ذلك أن الكاتب كان يعيش في مداراته الخاصة بحثا عن عالمية وهمية تؤهله إلى الشهرة، أو إلى جائزة ما يقف وراءها أحد الأمراء أو الأثرياء. في حين كان المجتمع «المتخلف» في عزلته، الغارق في المعاناة، يبحث عن مراياه المعبرة عن كيانه، عن لسان ناطق باسمه، حتى في جانبه الخرافي الذي كان يحتاج إلى اهتمام، رغم بدائيته المعلنة، وذاك ما حققه الفيسبوك كوسيلة مشتركة، رغم التحفظات الكثيرة بشأنه. لم تقدم الكتب والمهرجانات الأدبية والسياسية والإعلام الموجه والجامعات والروايات والقصائد والدراسات النقدية، من منظورنا، ما قدمه الفيسبوك للحراك الوطني في ظرف وجيز، من بداياته الأولى إلى اليوم، واضعا بذلك حدا لعقدة الشهادات والمؤلفات وغرور الإبداع النرجسي الذي بلغ درجة مرضية بمزاعمه التي لا حدّ لها، مع أننا لا ننفي، بالتوازي مع ذلك، رقيّه وقيمته الكبرى خارج بيئته، وبعيدا عن بلده وانشغالاته. لقد حقق الأدب، بأجناسه، قفزة عظيمة وجب الإشادة بها، لكنها لا تكفي لصناعة عقل نوعي يتحمل مسؤولياته تجاه شعبه، وتجاه الظرف الاستثنائي، مع أنه حرّ في خياراته، ولا يحتاج إلى أيّ نمذجة صنمية قد تلحق به أعطابا مدمّرة يتعذر ترميمها، كما حصل في بعض الواقعية الاشتراكية الموالية للأنظمة الاستبدادية: الجدانوفية أنموذجا. كان الفضاء الأزرق، رغم هزاته، وبعض هزاله، وذبابه الكثير، نافذة حقيقية على النفوس وأعماق البشر من حيث عفويته والتصاقه بالسياق العام، كطرح وتحليل، أو كاستباق للأحداث الممكنة التي غابت عن النخب المتصارعة في أبراجها السماوية، المتحايلة، بشكل مفضوح، على الطبقات المتضررة من الاختلاسات والسياسات الموبوءة التي بنيت على الجهوية والعلاقات الأسرية التي كانت في خدمة نفسها، وفي خدمة اللوبيهات الكبرى. لذا أصبحت هذه الوسيلة، مع الوقت، أكثر نجاعة من الخطاب السياسي والأدبي من حيث الفعالية، وأكثر بيانا وتبيينا، رغم ما يبدو عليها من تلعثم وقلة انضباط، مقارنة بالأكاديميات الصارمة الحبيسة في أدراج الجامعة. لقد رافق الفيسبوك الحراك عن قرب وأصبح ناطقا رسميا باسم الفئات الاجتماعية المتضررة من الوضع، دون أي تمييز، ما لم يحققه خطاب النخبة طوال سنين من الجعجعة اللفظية في المؤتمرات والندوات التي اهتمت بالسفاسف وأغفلت الأهم. اتضح أن الفضاء الأزرق أكثر كفاءة من حيث القدرة على التواصل والتأطير لأنه يملك المعرفة المنسجمة مع المستوى العام، قولا وفعلا. يذكرنا ذلك بطرائق الأحزاب الإسلامية في استقطاب الأتباع والمريدين بقراءة واقعهم وأهوائهم، ومن ثمّ العمل على امتصاصهم تأسيسا على رغباتهم وكياناتهم، بصرف النظر عن مقاصدها الفعلية، أو عن فكرة الغاية تبرر الوسيلة التي عادة ما تتبوأ أشكال الاستثمار. لقد قامت شبكة التواصل الاجتماعي بنوع من الغربلة العفوية للمخاطبين النفعيين، مكتفية بما يخدم مستوى القاعدة وحاجاتها. ذاك ما يمكن استنتاجه من رفضها لبعض النخب المشدودة إلى قناعات منافية لما تؤمن به الأغلبية الساحقة، مع ما يمكن أن يوجه لهذه الأغلبية من انتقادات فلسفية يتعذر عليها استيعابها بالنظر إلى الظرف المنافي لذلك، لكنه ظرف قائم كان يجب التعامل معه بمنطقه، وليس بمنطق استعرائي، عدمي، بالعودة إلى الطبيعة التي تتأسس عليها ثنائية الإرسال والتلقي في الكفاءة التواصلية، أو في معرفة الإقناع والتأثير، دون الإسهام في صناعة مناوئين للعقل، للتنوير كحتمية تستدعي أشكالا ذكية لتحيينها، بعيدا عن النزعات اليقينية المدمرة. وبالمقابل، استطاعت شبكات التواصل الاجتماعي، على حداثتها وتذبذبها، الحدّ من المسافة الفاصلة بين المتخاطبين بخلق مجالات حوارية تخص اهتمامات المجتمع الحقيقية. لقد أفلحت، في الشهور الأخيرة، في إضاءة ما تعلق بالحراك الشعبي في الجزائر، تنظيما ومرافقة وتحليلا واستشرافا. كما عملت، بناء على استغلال الصورة والمعلومة ومنافع بعض المثقفين والإعلاميين الأكفاء، إلى ترقية الخبر وتعميمه على القارئ الذي ظلّ مغيبا، أو مستهلكا للسلعة التي يمررها إعلام الأجهزة الرسمية والموالين لها في مختلف القطاعات الحساسة، بما في ذلك الجامعة التي نأت عن دورها الطلائعي، وغدت ملجأ آمنا لحاملي الشهادات المزورة، أو لأصحاب المناصب الإدارية من المنبطحين والمنتفعين من التسيير الفاشل للدولة، ومن الريع والاختلاسات وشراء الذمم. لم تفلح النخبة، إلا نادرا جدا، في فضح التسيير الكارثي للبلد خلال عشريتين من التدمير الجذري لمقومات الأمة واقتصادها، كما لم تتمكن من تحريك المجتمع بالنظر إلى علاقاتها الصدامية وفردانيتها وغرورها، أو بالنظر إلى قربها من القصر ومصادر القرار. ما أدى إلى عزلتها وهشاشتها التي قضت عليها وعلى دورها المحتمل في التوعية، كما بدا من مواقع التواصل التي انتقدتها بشدة، أو نبذتها، كإجراء انتقامي له مسوّغاته الموضوعية، وغير الموضوعية أيضا. لقد كانت هذه النخب المتهالكة، إلى عهد قريب، تعامل المجتمع باستعلاء وأبوية مفرطة، وتتعامل مع النظام بضبابية مقصودة لإخفاء حقيقتها الانتهازية. هل سينظر الفيسبوك باستعلاء إلى هذه النخب ليعاملها بالمثل كإجراء انتقامي؟ بنوع من التطرف والاستخفاف واللاجدوى ، ردّا على مواقفها الغامضة من الفساد العام؟ شكرا لمارك زوكربر الذي حرّر الفضاء وكشف عن بعض الفئات الضاجة لنعرفها، وعن بعض المثقفين والأدباء لنبصرهم بعد غياب طويل لم نسمع لهم فيه صوتا وموقفا، ما عدا الاستعلاء الفاحش، كنصوص وكشخصيات ربانية فوق المجتمع وخياراته ومحنته، فوق الضمير، فوق النواميس المشتركة، فوق كلّ الثوابت والمقدّسات، وفوق العقل.