لن يستطيع أي أحد من النخبة الحالية، ومن أحزاب المعارضة والموالاة للنظام البائد، مهما كانت الادعاءات التي يتمّ تسويقها في الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، تبني حراك 22 فبراير، أو ثورة الابتسامة، كما يحلو لبعضهم تسميتها، بالنظر إلى طابعها السلمي والحضاري المميز الذي شهد، منذ البدايات الأولى من الخروج إلى الشارع، توزيع التمر والماء والحلوى والابتسامات على قوات الأمن، وعلى المتظاهرين ضد حكم العصابة التي دمرت البلد على كافة الأصعدة خلال عشرين سنة من الحكم الأوليغارشي المقيت. كانت النخبة، أو أغلبها، خلال هاتين العشريتين العجيبتين من تاريخ الجزائر المعاصرة، تتفرج على انكسارات البلد المتعاقبة، اقتصاديا وأخلاقيا وتربويا وثقافيا، ممتعضة أحيانا، سلبية، أومتواطئة بطريقتها، بمستويات مختلفة، أحيانا أخر، حتى عندما كانت تناضل في الفنادق والصالونات والحانات والنوادي والملتقيات. ذلك أننا، احتراما للمنطق وللتاريخ، لا يمكن تبرئة هذه النخب كليا مما آلت إليه الجزائر في ظل هيمنة الرئيس المستقيل عبد العزيز بوتفليقة وحاشيته وقبيلته التي أحاط بها نفسه منذ مجيئه عام 1999، وكلّ الذين صفقوا له، مستفيدين من عدة امتيازات كشفت عنها العدالة لاحقا، وستكشف عن ملفات أخرى لن تنتهي بالنظر إلى حجم الفساد الذي أتى على مقدرات الأمة. كانت النخب الجامعية والثقافية، على اختلاف مشاربها، تتفرج على الخراب الكبير الذي جعل الجزائر أنموذجا استثنائيا في الفساد على المستوى الدولي، كما كانت هذه النخب مقسمة، بدورها ، شأنها شأن الأحزاب السياسية الفاشلة، أو المنتفعة من الريع ، إلى عدة ملل ونحل وأقليات أيديولوجية وجهوية ولسانية وأدبية ودينية وجمالية وعرقية لا مبالية بالوضع الفعلي الذي يحتاج إلى عناية خاصة من قبل هؤلاء. كان هناك، وما زال، في المشهد العام، ما يشبه الانسحاب المعلن من شأن المجتمع الذي تُرك عرضة لعبث العابثين ممن تبوؤوا مناصب إستراتيجية في دواليب الدولة المتداعية من عقدين، ما تسبب في انهيار الدولة وإفلاسها. كيف نسوّغ مثلا انسحاب الكتّاب والشعراء من الشأن العام؟ بصرف النظر عن سكوت أغلب المثقفين والمبدعين والمنتمين إلى الحقل الفكري، أو التحاقهم بالنظام بطرق شتى، فإن الأدب، كشكل من أشكال التنوير من حيث إنه طلائعي بطبعه، على الأقل في بعض القناعات الراسخة، ظلّ يبحث، خلال هذه الفترة السديمية، عن أشكاله ولغته في محيط متوتر، وعبثي إلى حد كبير. لقد غلب على هذا الأدب الجديد، بأنواعه، بما في ذلك المسرح، المظهر الحيادي لأنه بأر على نفسه في أغلب الحالات. لقد كان موضوعا لذاته ولمنظوراته المتعالية، ما يبرر الاستغراق في التجريب واللغة من أجل اللغة والكتابة الإباحية التي غدت موضة، وطريقة من طرق التحرر مما سميّ بضغط المحيط وسلطة الأب، إضافة إلى التحديث النظري، كما فهمه بعضهم، دون أيّ اعتبار للمحيط الخارجي وخصوصياته الاستثنائية. كان المجتمع الجزائري، كما يبدو للعيان، بحاجة إلى نخبة لها أصوات مسؤولة تنيره و تمثله، غير أن هذه النخبة، في اعتقادنا، خذلته مرارا إذ عاشت وكتبت لذاتها، أو لمجتمعات طوباوية وغيرية، معتقدة أنها، لسبب أو لآخر، غير معنية بالأحداث والقضايا السياسية التي تبعدها عن جوهر الفن كخيار قاعدي لا يجب التضحية به لخدمة المجتمع. ومع أنها محقة، إلى حد ما، في هذا التصور الأدبي الصرف الذي يريد ترقية استقلالية الفنّ ليكتسب مناعة ضد الموضوعات الفظة، بالمفهوم الأسلوبي، فإنها ابتعدت عن المحيط إذ نظرت إليه بشكل استعلائي مثير للجدل، وبلا مبالاة، ما خلق مسافة كبيرة جدا بين هذه الأشكال التعبيرية وبين القارئ الذي كان يبحث عن مثقف يمثل انشغالاته، بعيدا عن هذه التوجهات الأدبية التي لا تعنيه في شيء لأنها بورجوازية المظهر والموقف، ومتواطئة، بصمتها المعلن، مع الفساد العام الذي ميز المرحلة، ومع الأشخاص، سواء كان ذلك عن وعي أو عن غير وعي. تظهر النماذج الأدبية، في القصة والرواية والشعر والمسرح، التي نشرت في السنين الأخيرة، نوعا من التنصل، من الحياد الواضح، كما لو أنها لم تكن معنية بالواقع المتشظي، على عكس فترتي السبعينيات والتسعينيات اللتين عرفتا انغماسا في الأحداث والمتغيرات الاجتماعية التي شهدها البلد: الثورات الثلاث، ثم سنوات الدم. لكنّ هذا الاهتمام سينحسر بشكل يتعذر تبريره، ما عدا إن أرجعنا ذلك إلى انهزام الأدب أمام المال والمافيا، أو انتفاعه من هذا وذاك، إضافة إلى الرغبة الملحة في التخلص من السياسي الذي ميز بعض الفترات التي عرفها البلد. لكن هذه النخبة أحجمت، في كليتها، في تصريحاتها الصحفية، وفي أغلب كتاباتها النثرية والشعرية، وفي جل مواقفها، عن إدانة الشرّ الأعظم. لقد كان بعض هؤلاء المؤلّفين منخرطين، بشكل فج، في خدمة المصلحة الظرفية بالتعاون مع بعض المؤسسات، أو مع وزارة الثقافة وبعض الهيئات الأخرى التي منحتهم امتيازات كثيرة جعلتهم مطمئنين في عليائهم. في حين غرق آخرون في صدامات وتكتلات فكرية وأدبية ليست ذات قيمة فعلية، قياسا إلى الظرف الاستثنائي الذي كان يستدعي حضورا آخر، أكثر وعيا ومسؤولية. ربما كان الوعي، وعي المرحلة المميزة من تاريخنا، هو القدرة على أن يصبح الكاتب كاتب بلاط، ظلا خافتا من الظلال التي لا شأن لها، أو امتدادا ضمنيا للمنظومة السياسية الفاسدة، وأحد رعاياها الأقربين، كما قد يوحي بذلك الموقف المتخاذل، المتماهي، أو ذاك ما يمكن استنتاجه من مختلف المضمرات، وبأدلة كثيرة تثبت ذلك، دون أي تحامل عل أحد، لأن مختلف العلامات توحي بذلك. لقد كان سكوت الأغلبية الساحقة من الكتّاب والشعراء، في سياق مخصوص، شيئا من العمى الرؤيوي الذي يدعو إلى مراجعة مفهوم النخبة وأهميتها ووظيفتها الاجتماعية والفكرية والتنويرية والحضارية. الظاهر أن أغلب الروائيين والقصاصين والمسرحيين، كما الشعراء، على كثرتهم، كانوا مأخوذين بالنصوص الغزلية والإباحية والتجريبية التي لا تجرح أحدا، ما عدا كبرياء بعض القراء الذين كفروا بوعي النخبة التي تزعم تمثيلهم، او الكتابة عنهم، ولهم، دون أن تنتبه إلى هذا الشرخ بين الإرسال والتلقي، وإلى ما تعلق بالمسائل النفعية والتداولية التي قد تستدعيها سياقات عينية تتطلب تنازلات واهتمامات أخرى، غير التي تعني مصالح الكاتب، سواء كانت فنية أو مادية. لقد عاش الأدب في العقدين الأخيرين غير معني بالوطن والأمة، باستثناء بعض الأسماء والعناوين التي بدت حريصة على إدانة النظام القبلي والموالين له. مع أن هناك من تغنوا بالنظام وقدموا له خدمات جليلة، أو كتبوا قصائد مدح تعلي من شأن الحاكم الفاسد وحاشيته، أو أصبحوا جزء منه لقناعات تعنيهم. كان الجدل برمته يدور حول قضايا فنية وسردية تخص الكيفيات والمسائل البنائية المتعلقة بالنص المخصوص، وذلك أمر منطقي وضروري، وظلت الصدامات قائمة، وحادة، بصرف النظر عن قيمة الاختلافات حول القضايا الجمالية واللسانية المطروحة في مختلف المنابر، ومن جماعات الضغط التي احتكرت الأدب والتمثيل الأدبي. لكن الوطن ظلّ غائبا، أو كاد أن ينمحي في ظلّ التركيز المغالي، لسبب أو لآخر، على موضوعات اهتمت بالأشكال، دون الواقع السياسي المتهالك الذي قوّض أركان الدولة. كانت ثمة ثنائية مفارقة: الوطن في انهيار والأدب في ازدهار. ونادرا جدا ما انتبه الإبداع إلى هذه الاشكالية، لا في الكتابة الأدبية ولا في التصريح الصحفي الذي بدا مكتفيا بذاته وباهتماماته الشخصية، أي بالمنفعة والمكاسب. لا بد أن فلاديمير لينين كان محقا عندما قال: لكي تكون البورجوازية الصغيرة ثورية يجب أن تنتحر. ذاك ما ينسحب علينا وعلى كتاباتنا نحن البورجوازيين الصغار، الغامضين والمترددين والمنسحبين والموالين والخائفين، وتحديدا في مرحلة تاريخية كانت بحاجة إلى سند من أدبائها وشعرائها الأحرار، خاصة أولئك الذين كانوا مكرسين وطنيا وعربيا. لم يكن لهؤلاء، في نهاية الأمر، أيّ موقف مؤثر يمكن الاستئناس به، أو اتخاذه مرجعا مضيئا وقبسا، ولم يُسمع لهم صوت يدين العصابات التي ألحقت ضررا كبيرا بالجزائر المعاصرة في ظلّ هيمنة المافيا السياسية والمالية بشكل خرافي. كانت الأنانية هي التي تتحكم في هؤلاء الأدباء، وكانت هناك المصالح الظرفية الضاغطة.هكذا تراجع الموقف إلى أدنى درجة، مقارنة بالسبعينيات والتسعينيات، وفُسح المجال للصوص والمستفيدين من الريع، بمن فيهم النخبة نفسها، ومع أنّ لها بعض الأعذار، كالحصار والرقابة والتضييق والتهميش والمطاردة، إلاّ أنها لا تبرر صمتها المخزي. لقد أيقظت ثورة الابتسامة هذه النخبة السلبية إذ حررتها من ترددها وخوفها فالتحقت بالركب متأخرة، تابعة للمد العام، عوض أن تكون في المقدمة، كما حصل في بعض الثورات حيث لعبت فيها النخب أدوارا إستراتيجية فعالة، ومصيرية. أما في الوطن العربي، كما في الجزائر أيضا، فيأتي المثقف والمنظّر والكاتب والشاعر والمفكر في الأخير ليتحدث باسم الثورة، أو للاستيلاء على إنجازات الآخرين باسم القصيدة والرواية، أو باستغلال الاسم والشهرة، مع ضرورة التأكيد على الاستثناءات التي ظلت حاضرة، وهي كثيرة، رغم أن تأثيرها كان خافتا لعدة اعتبارات تاريخية وثقافية وسياقية.المنبوذون والعاطلون عن العمل والتعساء وسكان الأكواخ القصديرية هم الذين حرروا المجتمع والعدالة والثقافة والرأي العام، وأما القول بأن النخبة هي التي قامت بذلك فمجرد أكذوبة، مع أننا لا يمكن أن ننفي الدور الجزئي لهذه النخب المقعرة، المتقعرة.