تتحدث النظريات الثقافية عن عدة أنواع من المثقفين النقديين، ومنها: المثقف العضوي، المثقف التقليدي، المثقف الحركي، المثقف النقدي الخاص، المثقف الديني، المثقف السياسي، المثقف المثالي. كما تسند لكل عينة منظومتها الفكرية وبنيتها. بيد أنّ ما يعنينا، هو نوعية المثقف النقدي المتواتر في أدبنا، بما في ذلك المثقف الحداثي، وما بعد الحداثي: مرتكزاته، مساراته، هويته، غائياته، علاقاته بالمحيط الخارجي والسلطة، المثقف النقدي والآخر، فاعليته. وإذا كان من المتعذر جرد الأنواع وحصرها، انطلاقا من منجز متنوّع، فإن الملامح العامة قد تفيد في ضبط مقدمات كفيلة للقيام بدراسات في هذا الاتجاه لمعرفة ما إن كان هذا المثقف النقدي قادرا على التمثل والتأثير، تمثل الواقع والمتغيرات الافتراضية والتاريخ والمرجع والعلاقات المركبة، ثم التحويل بشكل استباقي، وفي إطار معرفي ذي هوية وسند، دون أن يكون أداة لتمرير الأخطاء. المثقف النقدي المهيمن على الأدب، سواء كان تقليديا، أو مثقفا حداثيا أو إصلاحيا، أو ضحية، أو مثقفا هامشيا، ليس إلا نتاج سياسة ومراحل مخصوصة في حياة المجتمعات. وهو، في نهاية الأمر، جزء من منظومات فكرية متحوَلة ترتبط بمقاصد نفعية، في بعدها الآني الذي قد يفتقر إلى مقوَمات حقيقية تؤهله إلى أن يكون تمثيليا.ثمة في إنتاجنا الإبداعي ما يشبه استبدال سلطة بسلطة مضادة، أو استبداد باستبداد مضاد، وتبدو كثير من النصوص في صدام مع الأغلبية، أي أنها تطرح نفسها، هي الأقلية، كبديل عن التاريخ والمنظومات الفكرية والثقافية التي أنتجتها الأزمنة. ما يعني أننا أمام ظاهرة أدبية تحتاج إلى وقفة متأنية لمعرفة جوهرها وأهميتها. إن هذا المثقف النقدي، الوارد في عينات من خطابنا، يعيش حالة انفصالية مع التاريخ والنواميس والبنى الثقافية والدينية والمعرفية، وهو، إذ ينتقد، إنما يمحو كلّ المرجعيات القائمة، أو أغلبها، ما عدا تلك التي تتناغم ومصالحه الصغيرة، وهو يستبدل يقينا جمعيّا بيقين فردي، مستورد في أغلب الأحيان. نتذكر ها هنا مثلا كيف تمّ استيراد الواقعية الاشتراكية، رغم قيمتها الكبيرة، إلى بيئة مختلفة، بكثير من الانحياز إلى أيديولوجية مكتملة في سياقها. لكنها متناقضة، في كثير من مكوّناتها، مع المجتمعات المستقبلة، مع الشعوب، وليس مع الأنظمة التي سعت إلى تكريسها. كما نتذكر بعض الخطابات الدينية التي تضمنتها النصوص، ونقصد بها تلك المتشيعة، أو المدافعة عن ملل ونحل أريد إقحامها قسرا في منظومة سردية وشعرية. كما أن هذه الحداثة، المغالية أحيانا، لم تبن على أساس متين، وهي لا تقبل المختلف، شأنها شأن التيارات السياسية والدينية واللغوية الاستئصالية التي تمجد نفسها. لذا يبدو المثقف النقدي مثقفا مربكا، أصوليا بطريقته، وقد لا تكون له أية علاقة بنفسه وبذاكرته. كما يمكن أن يسهم هذا التصوّر الغالب، ليس في إبعاد الأدب عن المحيط، بل في محو تأثيره، وفي تشويه صورته لدى المتلقي الذي ينظر إليه كقيمة تحويلية.لقد وقف بعض هذا الأدب مع السلطة في محاربة الحركات الداعية إلى التغيير، وبخاصة ما ارتبط بالتوجه الديني. وقد كان هذا الأدب من مناصري الديمقراطية، إذ كان يشعر بالقهر تحت الأنظمة الشمولية ذات القناعات اليقينية. لكنه تراجع عن مواقفه ليسهم في تقوية التفكير الشمولي، ومعنى ذلك أنه حلّ محلّ الأنظمة الأحادية وأصبح يقوم بدورها في محاربة المثقف النقدي المختلف. هذا النموذج لا يختلف عن المثقف السياسي المرتبط بمصالح الكتلة، وبالمصالح الشخصية التي قد لا تنبني على أبعاد أخلاقية، بالمفهوم المتداول عند المثقف الذي يأخذ في الحسبان قضايا التعارض الإيجابي، أو الثنائيات المنتجة للمعنى. بل إنه قد يغدو صورة عن السلطة، ناقلا لاستبدادها المحتمل، كما أشار إلى ذلك بولغاكوف في حديثه عن" السلطة المثالية". أغلب ما كتب كان متحيزا، دونما بحث في طبيعة الأحداث وجذورها، ولم يفلح الكاتب في القيام بقراءة نقدية تقويمية مبنية على الأخلاق الأدبية بالدرجة الأولى (الأخلاق الأدبية كما يراها سارتر)، وليس على الموقف الأيديولوجي المعلَب. لقد كانت صورة المثقف النقدي باهتة، أحادية، ما جعله مثقفا تابعا لجماعات متصارعة. لكنه لم يحقق استقلاليته كعنصر قادر على التخلص من الأنساق الشمولية والمؤسسات الصنمية التي أصبحت توجهه. ويبدو للعيان، أنه حارب معرفة اتباعية، بمفهوم أدونيس ومحمد أركون، بمعرفة اتباعية مستقاة من نماذج لا تقل أحادية واتباعية، إن لم تكن أكثر مغالاة.قد لا نعثر في كتاباتنا على مثقف مثالي، بمفهوم جوليان بندا، ولا على مثقف في شبه تضاد مستمر، بمفهوم إدوارد سعيد، ولا على مثقف عضوي، بمفهوم غرامشي، ولا على مثقف حركي مؤهل للقراءة بمعرفة كافية، وبروية لا تجعل التحديث منفصلا كليا عن المحيط، كما في الإخوة الأعداء على سبيل التمثيل. هناك سمة عامة يمكن تلخيصها في نوع من التمرد غير الوظيفي، وقد ينطبق هذا على المثقف النقدي الذي يعبر عن الآخرين، وليس عن حتمية فرضتها التحولات الفلسفية بعد تجارب وتركيم للمعرفة والممارسة. وإذا كان بعض الأدب يتوجه إلى قارئ أجنبي، بتمرير صورة عن مثقف يتسم بنوع من الكاريزما الخارقة، لغايات نفعية، فإننا لا نتوقع من هؤلاء أن يكونوا في الطليعة، تنويريين وقادرين على تحريك الأغلبية التي تشكل مجتمعاتهم، بصرف النظر عن طبيعتها. لذلك تتحرك المجتمعات خارج النخبة التي تبدو نشازا، شيئا دخيلا لم يبن على أية حلقية تأخذ في الحسبان مجموعة من المكوّنات التي لا يمكن القفز عليها. يبدو هؤلاء صادمين، قياسا إلى المنظومة الثقافية التي لا تستطيع التضحية بكيانها. والحال إنها ترى حتى في بعض الطقوس الخرافية متكأ لأنها تسهم في تحصينها من الانمحاء في ممارسات مريبة. ثم إن الخطاب النقدي أصبح خطابا متصالحا مع الأنظمة إلى أبعد حدّ. لقد وجّه سهامه نحو الطبقات الشعبية "المارقة" التي أنتجتها هذه الأنظمة نفسها، ثمَ سعت إلى امتصاص المثقف النقدي الافتراضي بإدخاله في صراع مستمر مع المثقف النقدي الآخر: التقليدي ضد الحداثي والعلماني ضد الإسلاموي. والنتيجة؟ كثير من الأنظمة والمؤسسات ورطت هذه " النخبة " في سجال دموي أحيانا، مكتفية بدور المتفرج، أو بدور الضحية. لقد وجدت من يحمل عصاها ليضرب الآخرين. هناك نصوص لا حصر لها أغفلت الموضوعات الجوهرية وغرقت في جدل زائف، أو في إدانة توجهات فكرية، ضحية بدورها من ضحايا التعامل المستخف بالمثقف النقدي الذي لا يعيش بالتجنيد والدعم.قد تحتاج هذه المقاربة إلى شواهد من النصوص الإبداعية، وهي كثيرة، لكنها لا تحتاج إلى الكشف عن الطرح التبسيطي الذي ميّز بعض الشخصيات المحسوبة على هذه الفئة من المثقفين الذين يعيشون في قوالب من الأنساق اليقينية، أي الشخصيات التي تريد احتكار المنطق والحقيقة.من الصعب العثور في نصوصنا على مبادئ فكرية إنسانية تجمع المثقفين النقديين، على تبايناتهم. هناك حرب معلنة قد تتوقف عندما نؤسس على القرابة الممكنة، على رفض الأيديولوجيات والنزعات التي تقلل من شأن الأدب والفكر، أو تلك التي تجعل الأدب آلية من آلياتها، شيئا يشبه العسس: هل نحن أمام مثقف متورّم؟