عندما استعاد القضاء استقلاليته وراح يفتح ملفات الفساد المحفوظة طيلة عقود في أدراج المحاكم و فرق التحقيق المختلفة , الجميع صفق و ابتهج , ومنهم من أقام محاكمات شعبية في الساحات العمومية لمن يعتبرونهم رموز الفساد, لكن مع مرور الوقت, بدأت الحماسة تضعف والتصفيق يخفت عندما طالت الحملة شخصيات ليست من رموز النظام السابق , ولكنهم لا يقلون عنهم من حيث الاشتباه في ضلوعهم في قضايا فساد من الوزن الثقيل؟ وكشفت هذه المواقف مرة أخرى مدى تجذر نزعة الكيل بمكيالين لدى المجتمعات شعوبا و أنظمة , حتى فيما يتعلق بقضايا محاربة الفساد التي تحظى بتأييد مطلق من حيث المبدإ , لكن من حيث التطبيق يستحيل تحقيق توافق بسيط حول أي ملف من ملفات الفساد قيد التحقيق القضائي, لا سيما في ظل وضع سياسي مضطرب, يسعى في خضمه جميع اللاعبين إلى حسن التموقع تحسبا لقيام النظام الجديد, لكن مع حرصهم في نفس الوقت على عدم لفت انتباه جهات التحقيق التي تواصل تحرياتها حول الكثير من حالات الثراء السريع ... هذه الازدواجية في تعامل البعض مع قضايا الفساد هي التي أملت على وزير العدل حافظ الأختام إلى التأكيد بأن الجميع سواسية أمام القضاء ولا انتقائية في محاربة الفساد, بما في ذلك رجال القضاء الذين أصدر الوزير ضد بعضهم قرارات توقيف مؤقت, وهو الإجراء الذي اعتبرته نقابة القضاة من «حق الوزير « لكنها اشترطت أن يتم «بعيدا عن التشهير» ؟و الإشكال أن التشهير بهذه القضايا هي صناعة إعلامية بالدرجة الأولى , بحكم كثرة وسائل الإعلام و تكرار نفس الأخبار على مدار ساعات اليوم فيصبح «التشهير» تحصيل حاصل . الخطأ والصواب والإشكال ؛ في إثارة قضية «التشهير» عندما تعلق الأمر بالقضاة , رغم أن جميع المشتبه فيهم في قضايا فساد من المسؤولين السابقين تعرضوا هم أيضا للتشهير؟ ففي دولة القانون ليس هناك متهم أنبل من آخر بحكم الوظيفة أو المنصب , أو بحسب الانتماء الجغرافي أو العائلي أو الحزبي أو المذهبي ,إذ لا فرق بين متهم وآخر إلا بما حواه ملفه القضائي من وقائع يجرمها قانون مكافحة الفساد و الوقاية منه , والذي على الجميع دعمه بدءا باستعمال مكيال وحيد في التعامل و الرد على كل جرائم الفساد, أينما وقعت , ومن أي شخص أو جماعة ارتكبت . ازدواجية المواقف هذه , ذكرتني بحوار قصير بدأه أحد النواب العامين باستفساره عما إذا كانت الأسرة الإعلامية تتضامن مع أي صحفي يتابع قضائيا , و كان ردي بدون تردد ,أنه لا تضامن معه إن كان متابعا بقضية تتعلق بجرائم القانون العام . يبدو أنه موقف لا يحظى بالإجماع, رغم أنه يضمن العدالة للجميع. و لذا من الأفضل للمجتمع أن تخطئ نقابة في التعبير عن تضامنها , بدلا من أن تخطئ العدالة في البت في قضايا فساد . فالعدالة هي العدالة , صاحبة الأجر في كل الأحوال؛ إن أصابت فلها أجران و إن أخطأت فلها أجر ؛ و للضحايا إمكانيات الطعن و الاستئناف ...