- غياب تام للخدمات، طريق مهترئ وإهمال كبير لأحد أبرز المواقع التاريخية في شمال إفريقيا
كانت الساعة تشير إلى الحادية عشر والنصف صباحا، عندما وصلنا إلى بلدية الأمير عبد القادر بعين تموشنت، كانت الحرارة في حدود ال30 درجة والرطوبة مرتفعة نسبيا، فيما كانت السماء ملبدة بالغيوم البيضاء، ارتأينا أن نأخذ بعض الصور التذكارية، عند تمثال الأمير عبد القادر الجزائري، المتواجد في قلب هذه البلدية الهادئة الفلاحية، سألنا أحد التجار المتخصص في بيع الدجاج، عن بلدية بني غانم، التي يتواجد فيها الضريح الملكي " سيفاكس "، في البداية رحب بنا ودعانا إلى شرب كأس شاي ساخن، فما كان لنا إلا قبول هذه الدعوة ليخبرنا أن الضريح مشيد في أعالي هذه القرية، ولكن الطريق مهترئ وغير معبد منذ عقود، إذ ورغم الدعوات المتكررة لسكان بني غنام لإصلاحها، إلا أن نداءاتهم بقيت طي النسيان والإهمال... الوصول إلى قرية بني غنام وبعدما أخذنا قسطا من الراحة، انطلقنا إلى وجهتنا التي جئنا من أجلها، حيث وبعدم قطعنا حوالي 6 إلى 7 كيلومترات، وصلنا إلى بني غانم، التي تقع في مكان مليء بالغابات والغطاء النباتي الأخضر، تحفه سلسلة من الجبال المرتفعة التي تحيط بالقرية، حينها أدركنا أن اختيار الملك " سيفاكس " لهذا المكان، لإقامة مملكته " نوميدياالغربية "، لم يكن اعتباطيا أو غير مدروس، بل بالعكس كان الاختيار صائبا والموقع استيراتيجيا، لأن الموقع غني بالمياه الباطنية، ولا يقع بعيدا عن الساحل... ما شدنا ونحن نزور هذه القرية، وجود العديد من باعة الفواكه على غرار " التين " أو " الشتوية "، والعنب بكل أنواعه، وحتى اللوز والعناب أو " سفيزف " مثلما يقال عندنا، كان سعرها منخفضا بحوالي 20 إلى 30 بالمئة، عن تلك التي تباع في أسواق وهران، وحتى لا نشعر بالجوع والعطش، اشترينا القليل من فاكهة " الشتوية " وخبز العرب الساخن وقارورة ماء باردة، احتفظنا بهذا الزاد للضرورة، لاسيما وأن الساعة كانت تشير إلى الواحدة زوالا، والضريح يوجد في مكان خال، وتنعدم فيه محلات المواد الاستهلاكية... طريق مهترئ منذ عقود لتنطلق الرحلة وهذه المغامرة المشوقة، حيث صادفتنا في الطريق، لافتة إشهارية مكتوب عليها، " الضريح الملكي لبني غانم 2.5 "، اتبعنا اتجاه اللافتة، لنجد أنفسنا في عدة منعرجات مرتفعة تقود نحو ربوة شاهقة، حيث يوجد بعض المنازل المبنية بطريقة ذاتية في إطار السكن الريفي، المنتشرة يمينا ويسارا، تزينها بعض أشجار التين والكروم المثمرة، لتختفي هذه البيوت، وتظهر لنا من على بعد 1 كلم من المسير قرية بني غنام أسفل الربوة يمينا، وعلى اليسار بعض الأراضي الفلاحية الخضراء، ومن الشمال شاطئ رشقون وجزيرته العذراء، كان الهواء عليلا والشمس لافحة، لم نسمع وقتها سوى صوت محرك السيارة وزقزقة العصافير، كان جبل " سكونة " الذي يوجد فيه الضريح، خاليا على عروشه، عدا بعض الكلاب المتشردة، التي حاولت منعنا من مواصلة رحلتنا الشيقة، وما حز في أنفسنا ونحن نزور هذا المكان، هو وضعية الطريق المهترئة، التي تدهورت بعد التساقط الكثيف للأمطار، على مختلف مدن القطر الوطني،ما أدى إلى تعطل العجلة الأمامية للسيارة، حيث اضطررنا إلى التوقف لقرابة نصف الساعة لإصلاحها، وبعد تغيير العجلة واصلنا الرحلة، لنشاهد عند إحدى أشجار الصنوبر يمينا، سيارة من نوع «كليو»، وبعض كلابالحراسة، توقفنا عندها لينزل منها أحد الأشخاص، قدم نفسه على أنه عون حراسة، فسألناه مباشرة عن الضريح الملكي، فأشار لنا بيده بأنه غير بعيد من المكان الذين توقفنا فيه، ليقوم بتسجيل ترقيم السيارة، كإجراء روتيني عادي، متمنيا لنا زيارة هادئة وجميلة.. معلم تاريخي بدون خدمات ! وما هي إلا دقائق معدودات حتى وجدنا أنفسنا في حظيرة كبيرة، تقابلها لافتة خضراء اللون، تتضمن بعض المعلومات عن الضريح وتاريخ تأسيسه، وقد أثار انتباهنا ونحن نستطلع المكان، هو غياب المحلات ودورات المياه وقلة الكراسي والمقاعد، دون أن ننسى كثرة الأحراش والأشواك، وغياب دليل في عين المكان يقدم شروحات مستفيضة للزوار، عن تاريخ هذا الضريح الهام، بدا المكان وكأنه مقبرة وليس معلما سياحيا يستقطب الزوار، شعرنا بالخوف وعدم الأمان، باعتبار أننا كنا في أعلى قمة جبل سكونة، وقد حاولنا وقتها تجريب الهاتف النقال فكانت المفاجأة أن التغطية كانت ضعيفة، وجاء في بالنا حينها فرضية وقوع حوادث طارئة، واستحالة المتصلين، ربط الاتصال بمصالح الأمن والحماية المدنية للتدخل، تأسفنا صراحة لهذه النقائص الفادحة في الخدمات،إذ وبدل أن تقوم الجهات الوصية، بترميم الضريح الملكي وإعادة الاعتبار له، شاهدنا حجارة الضريح مرمية هنا وهناك، والأحراش منتشرة بكثافة حوله، وكأن قدر هذا القائد النوميدي الكبير، الذي حارب الرومان وأسس لإمبراطورية " مازيسيل " العظمى، أن يتم مكافأته بالتهميش واللامبالاة والإقصاء، طفنا حول ضريح الملك " سيفاكس "، أحسسنا بوقار وهيبة هذا المكان، وعاد بنا المخيال حينئذ إلى الحروب الكبرى التي خاضها ضد الغزاة الرومانيين، وجهوده في بناء مملكة نوميديا الغربية، والنسيج الاجتماعي والاقتصادي المتكامل الذي شيد به حضارته العريقة، في مملكة " مازيسيل " التي توجد أسفل الضريح، غير بعيد عن قرية بني غنام، التقطنا بعض الصور التذكارية هناك.. « سيقا » أرض الملاحم وقررنا بعدها التوجه إلى الموقع الأثري " سيقا"، الموجود أسفل جبل سكونة، المقابل مباشرة لشاطئ رشقون، وبعد قرابة ال20 دقيقة من المسير، وصلنا إلى الموقع المتواجد وسط مجموعة من الأراضي الفلاحية الغناء، حيث كان المزارعون وقتها يسقون محاصيلهم، فيما كان آخرون يقلّبون تربة أراضيهم مستبشرين بعام جديد مليء بأمطار الخير والبركة، في البداية لم نتعرف على مكان الموقع، حيث قيل لنا بأن مملكة " سيقا " انطمرت تحت الأرض، بسبب التغيرات الجوية كالجفاف والزلازل والأمطار وغيرها من العوامل الطبيعية الأخرى، وفعلا لما وصلنا إلى عين المكان، لم نجد إلا لافتة إشهارية تدل على وجود مملكة " مازيسيل "، التي تتربع على مساحة 32 هكتار، وهي من بين أقدم المواقع في شمال إفريقيا، حيث اتخذ منها الملك سيفاكس في نهاية القرن 3 ق. م، عاصمة لمملكته (نوميديا الغربية) والتي شهدت أحداثا تاريخية هامة، على غرار لقاء الصلح الذي عقده سيفاكس بين سيبيون الروماني وصدر بعل القرطاجي سنة 206 ق.م، صعدنا بضعة أمتار بالسيارة، لنجد أحد أعوان الأمن، وهو يراقب الموقع ويستقبل الزوار الذين يزورونه، توجهنا إليه مباشرة، لنسأله عن مكان تواجد " مملكة سيقا "، فأخبرنا أنها اليوم مدفونة تحت الأنقاض.. معلم يحتاج إلى تدخل عاجل و لكن رغم ذلك توجد بعض المعالم الأثرية، التي تم اكتشافها من قبل بعض علماء الآثار الألمان، في نهاية السبعينات، وتحديدا في حقبة الرئيس الراحل هواري بومدين، الذي كان يولي اهتماما بهذه المواقع والمعالم الأثرية، حيث أخذنا إلى أحد الأحواض المائية التي كان النوميديون يستعملونها في الفلاحة والسقي والمياه الصالحة للشرب، كما زرنا كذلك إحدى دور العبادة التي كان سكان مملكة " مازيسيل " يتنسكون فيها، إذ تم تسييجها كلية، لحمايتها من الضياع والتخريب، لنتوجه بعدها إلى سور المملكة المهدم الذي لم تبق منه سوى بعض الأطلال، حيث أخبرنا أن الأراضي الفلاحية التي توجد تحت هذا السور، كانت في الماضي عبارة عن ميناء ومياه البحر كانت تصل إليه (ميناء) ولكن مع مرور الأزمنة، اختفت مياه البحر وتراجعت إلى حيث شاطئ رشقون، وأن حكام " مازيسيل " كانوا يتبادلون تجارتهم في جزيرة " رشقون "، دون السماح للسفن بالدخول إلى ميناء المملكة، كإجراء احترازي ووقائي لمملكتهم، وهو ما يؤكد العلاقات المتوترة والسيئة التي كانت تطبع النوميديين بالرومان، ورغبتهم في احتلال شمال إفريقيا... كانت الزيارة مشوقة، ممتعة وحتى مثيرة، لأنها سمحت لنا بالوقوف على وضعية هذه المعالم، وتأخر الجهات الوصية في تثمينها والحفاظ عليها، وحتى استغلالها لتثقيف النشء وجلب السياح الأجانب إليه والتلاميذ والجامعيين والأكاديميين لإجراء الحفريات، وإنقاذ هذه المملكة من الاندثار، قبل أن تتحول إلى أثر بعد عين... تجدر الإشارة إلى أن الملك النوميدي " سيفاكس "، هو أحد الشخصيات التاريخية النوميدية البارزة، حيث يقال إنه هو من طلب دفنه في الضريح الملكي ببني غانم، لرؤية مملكته " سيقا " وهي تتوسع، فيما تقول دراسات تاريخية أخرى أنه توفي في روما ودفن هناك، بعدما ألقى ماسينيسا عليه القبض في معركة السهول الكبرى في جوان 203 قبل الميلاد، وسلمه للقائد الروماني سكيبيو الذي نقله إلى روما سنة 202 قبل الميلاد.