كان يجلس وسط أدوات مهنته التي كان يعشقها ويجد فيها متعة لا تضاهيها متعة؛ مهنة الخياطة التي كانت في البداية عبارة عن فضول إلى هواية لتصبح حرفة. وهو طفل في السنوات الأولى من الدراسة والتي كانت عبارة عن ثلاث سنوات فقط لا أكثر في مدرسة البنين، كان لا بد له بالرغم من صغر سنه مثل الكثيرين من جيله أن يشتغل لإعالة أخواته وجدته وأمه، التي قتل زوجها بسبب ثأر قبلي وهو لا زال في بطنها في شهره الخامس، متمنية ومستجدية الله والأولياء الصالحين أن يكون ذكرا يحمل اسم العائلة ويحافظ على السلالة التي بدأ يفككها الاستعمار. عمل في الحمامات الشعبية وفي مزارع الكولون ومع ماسحي الأحذية وحمالا في مختلف أسواق المدينة. يوميا فِي منتصف النهار كان يأتي بسلة المطالَب والحاجيات إلى مديرة مدرسة البنات التي كانت تشتغل عندها أخته الكبرى. يوميا مع ساعات الغروب كان يأتي عند السيد " ڤونزاليز " خياط المدينة الشهير زوج المديرة لينظف المحل، يرتب أغراضه ومختلف أدوات تصميم الأزياء، يطوي الأقمشة أويلفها في قوالبها، يمسح بقايا غبار الكتان من على الماكينات ويضع الزيت في براغيها حفاظا عليها من الصدأ.لم تكن عينه تغفل ولا لحظة ليسترق النظر إلى الخياط الماهر،وهو يتفنن في قَص أنواع الأقمشة وتفصيلها إلى موديلات وقصات أوربية للنساء والرجال والأطفال، حاملا المكواة من على النار، وهو يتفنن في الطيات الدقيقة ويثبتها واضعا بين المكواة والموديل قطعة قماش بيضاء من الشاش مبللة تفاديا لتخريبها. السيد ڤونزاليز من بقايا العائلات التي هاجرت من اسبانيا إلى الجزائر قبل الاستعمار الفرنسي بعقود واستقرت في سكينة وهدوء وسط العامة، بحثا عن لقمة العيش بمهنته التي توارثها أبا عن جد. لم يكن لڤونزاليز لا أولادا ولا عائلة إلا زوجته سارة؛ المنحدرة من أصول أندلسية من أب مسلم وأم يهودية، استقرت في المنطقة منذ قرون ولم تعد تحس بأي فرق بينها وبين الأهالي. تربى الطفل وكبر في محل الخياطة الذي أصبح يرى نفسه فيه جزءا لا يتجزأ من تفاصيله الدقيقة والحميمة. كان يستهويه المغناطيس وهو يلتقط ما تساقط خلال اليوم من إبر ودبابيس وبراغي. يتحسس المقصات المختلفة القياسات والأحجام، محاولا أن يقص بقايا القصاصات المهملة من الأقمشة الغير الصالحة مثبتا القطع قطعة قطعة بالدبابيس، ليخيطها في الأخير صانعا منها تحفة فنية ليزيد من اندهاش السيد ڤونزاليز فيه وفِي نباهته وذكائه يوما عن يوم. كانت له الحرية الكاملة في التحرك في المحل الذي اشتغل فيه ما يقارب العشرين سنة، إلا الغرفة الخلفية الخاصة بصاحب المحل، لم يجؤ يوما على تخطي عتبتها حياء أم خوفا، أو الإحساس العميق بالثقة والأمان اللذان وضعهما فيه معلمه الأول وهو يأخذ المقص والإبرة وقطعة القماش لأول مرة. سكنه الفضول وهو يلاحظ أن الغرفة التي كانت مغلقة على الدوام، بابها موارب والمفتاح في القفل. انتابه إحساس غريب أغمض عينيه ودفع الباب بهدوء أشعل الضوء، ليتفاجأ بماكينة خياطة من نوع السانجير لا زال عالقا بإبرتها علم وأكوام القماش الأبيض والأحمر والأخضر مرتبة على الجانب، مع ألبسة عسكرية جديدة جاهزة للاستعمال. وضع يده على فمه. أطفأ الضوء أغلق الغرفة بإحكام متأكدا من وضعية المفتاح. خرج في هدوء وحيرة أنزل الباب الخارجي الحديدي أحكم غلق الأقفال الثقيلة. رنّ الجرس في بيت السيد ڤونزاليز وزوجته سارة.!!!؟؟؟ سيدي خذ المفتاح لقد نسيته في باب الغرفة الخلفية!!!؟؟؟