سيتغير وجه العالم حتما بعد هذه الجائحة، لا لأنها جائحة كبيرة الحجم، شديدة الفتك، كبيرة المَوَتان، تخطت ما سبقها من بلاءات أصيبت بها البشرية من قبل؟بل لأنها جائحة ركبت على جناح الدعاية، والشائعة، والتواصل الواسع السريع، وجرت على ألسنة أشباه الخبراء والكذابين، وتلقفها عدد كبير من الدجالين في مشارق الأرض ومغاربها. ومن ثم دخلت كل بيت، وعشعشت في كل القلوب والعقول. وعصفت بالحواجز بين الحقيقة والخيال، والواقع والافتراض. فلم يعد معها للمتأمل معلم يتشبث به من أجل تمييز حدودها، وتبين حقيقتها. ..فتشبث الناس بسلاسل أرقام الإصابات والوفيات، التي تمر سريعا في أشرطة حمراء أسفل الشاشات مدموغة بكلمة "عاجل" حتى صارت قلوب القابعين في البيوت، والتي عصف بها الخوف، والجوع، وسكنها الهلع، لا تقدر أن تصرف نظرها عنها صباح مساء. لتقرأ فيها العدد الذي يزداد في التصاعد جنونيا، ساعة بعد ساعة. سيتغير وجه العالم بعد هذه الجائحة، وذلك لسبب بسيط جدا. سيتبين للمواطن البسيط بعد انجلائها السريع إن شاء الله عز وجل، أن كل ما كان يجري من تهويل وتخويف، إنّما حدث في الأنظمة والحكومات والمنظمات لهشاشة بنيتها، وقيامها على نظام ربحي، لم يفكر يوما في الخسارة والنقصان. وإنّما بُني على أن يكون نظاما رابحا في كلِّ حين، وفي كلِّ حال. ولا يهمه قيمة البشر أبدا إلا باعتبارهم منتجين فقط، يدورون في دولاب الماكنة الإنتاجية التي تنتهي أرباحها في جيوب أفراد معدودين لا ينتمون إلى البشرية بصفة من الصفات. فكان الحجر الذي بدأ أولا وكأنه حماية لأرواح الملايين من البشر، يكشف عن هشاشة النظام المالي العالمي المرتبط بدورة واحدة، أولها الإنتاج وثانيها الاستهلاك وثالثها تكدس الأرباح. في إطار قانون العرض والطلب ، غير أن الحجر كسر هذه الدائرة حينما فرض على الناس البقاء في بيوتهم ، فلم يعد هناك إنتاج البتَّة وتوقفت المكينة الصناعية في كل مكان، وتوقف معها الإنتاج، أما الاستهلاك فسيستمر بعدها بقليل لتتبخر معه المدخرات الفردية لدى العامة من الناس. فتضطر الحكومات إلى ضخ أموال في الدورة ليستمر الاستهلاك من جديد إلى أن تعلن الدُّول إفلاسها كليا. في هذه الدوامة الرهيبة التي قامت منذ القرن السابع عشر على المال، وسياسة البنوك، والدَّيْن والربا. لا نجد للإنسان مكانا خارجها إلا باعتباره ضرسا في دولابها الكبير. يُعاد الزجُّ به مرات ومرات في دولابها لتستعيد الحركة من جديد. فقد تُخْتَلق لأجل ذلك الحروب، وتُشعل نيرات الطائفيات، وتُصنع الأزمات، وقد يحتاج الدولاب إلى جائحة وهمية ليعيد تفعيل دورته من جديد. لكن هذه المرة، هناك وسائل الإعلام التي لم يُحسب لها حساب! ..هذا الدولاب الخطير الذي بدأ دورته الجنونية اليوم ليكشف للفرد، وهو قابع في بيته أن النُّظم قد تكذب عليه، وقد تتخذه فأر تجارب، إذا خرجت الأمور عن السيطرة. وقد تُضحي به في فوضى عارمة من أجل اقتناء الخبز ، إنَّه يشهد بأم عينه كيف استطاع فيروس صغير تجفيف منابع المال المشبوه. مال الربا، مال المخدرات، مال القمار،مال السلاح والحروب، مال الرشاوى والشركات المتعددة الجنسيات. وكيف كان يستخدم ذلك المال من أجل خلق مال أقذر منه رائحة ولونا، إنه يكتشف سُبل التغذية بالمال "الحرام" ، وأنه في كل هذا الدولاب الضَّخم من الإنتاج لم يكن له من الخيار إلا أن يستهلك ما يُمرضه، ويسبب له الأضرار التي لا تُعد ولا تُحصى. وأنه لم يعد الإنسان الذي خلقه الله صافيا طيبا، وإنَّما صار الإنسان الذي خلقَه الاستهلاك، وقد جرت في عروقه لقاحات شتى، لا يعرف مكوناتها، ولا أهدافها، ولا إلى ما تؤول إليه في نهاية أمرها. فقط قيل له أنَّها ضد كذا وكذا من الأمراض والفيروسات. هنا في إفريقيا غضبٌ يتصاعد اليوم. غضبُ جيل جديد علم أنَّه فأر تجارب، وأنَّ من خدعه هم من حكموه طيلة هذه العقود، وقدموه قربانا لهذه الآلة الجهنمية، حتى لم تعد له من قيمة في سلك البشرية التي ينتمي إليها ، غضبٌ ناشئ عن وعي بأنَّ الرجل الأبيض لا يزال يُهيمن، يعتقد أنَّه الإله على الأرض، وأن يجوز له أن يفعل في غيره ما يريد، غضبُ في أن يحرم من علاجه البسيط الذي يصنعه من أعشاب تربته التي يثق فيها، فيقوم في وجهه من يقول له باسم العلم والمخابر، أنَّه لا يجوز له أن يتجرع ترياق الجدَّة الذي خَبِرهُ من عقود، وأن عليه أن ينتظر في طابوره المستكين، وصول ترياق ما وراء البحر. لأنه علمي مخبري، ملفوفا في سخرية بغيضة تحتقره وتحتقر اعتقاده القديم. غضبٌ تساهم في نشره وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبح يثق فيها أكثر، ويستعملها بخبرة أكبر، وينشر فيها بسرعة أكبر. يكشف فيها ما أخفاه عنه القرن التاسع عشر، والقرن العشرين، وما يخطط له في القرن الواحد والعشرين. لقد غدت قصور الحكام أمامه من زجاج، وصارت أسوارها من بلور. ولم تعد اللغة تتسع للكذب، والتدليس، والتمويه، والتلبيس. سيتغير العالم طبعا..! لأن القرن جديد، ولأنه اختار بدل الحرب العالمية الثالثة، حربا فيروسية شنَّها مخلوق مجهري لا يعترف بالألوان ولا بالحدود، ولا باللغات والأعراق والهويات. كلُّ الأكاذيب التي أسست عليها القرون الماضية سياساتها لاستعباد الإنسان الأسمر تهاوت مع هذا الغازي الجديد، الذي يركب صهوة الخوف، ويدك قلاع المال، ويكشف عورات الأنظمة. فيروس لا يمكن إيقافه على الرغم من الحجر، لأنه يريد أن يوقف دورة الأرض ليطوقها من كلِّ ناحية، ويعزل دولها، ومدنها، وأحياءها، وقراها. حتى يتمكن الإنسان من الجلوس إلى نفسه ليفكر في عالم جديد. يختاره لنفسه بعيدا عن تلك الخزعبلات الأيديولوجية التي أرهقته، وعن أرباب المال الذين امتصوا دمه وخيرات بلاده. ربَّما سيكون الاكتفاء بالبيت أفضل شيء يحدث لهذا الإنسان الشقي. ليتعلم من جديد لذة الحياة في بيت مع أسرة، حول مائدة طعام بسيط، فيه ضروريات العيش بعيدا عن إضافات استهلاكية كانت تُفرض عليه، وتسمم ذوقه وصحته. يتعلم في هذا البيت من هي الأسرة؟ من هي الأم؟ ومن هو الأب؟ ومن هي الزوجة؟ ومن هي الأخت والأخ؟ ومن هو الجار؟ ثم بعدها يعيد صلته بالقريب والبعيد. إنه ميلاد جديد لعالم، يعيد ترتيب نفسه، وترتيب مفاهيمه، ويكنِس عن عتبته بيته كلَّ الأكاذيب التي خطتها السياسات والأيديولوجيات والهوِّيات. ليقف بين يدي ربه من غير حاجز ولا وكيل. يتعلم ذلك بعيدا من مسجد تسيَّس، أو إمام تأدلَج، أو كتاب، أو خطبة تجذبه إلى هذا أو ذاك. يتعلم كيف يجلس إلى ربه وحيدا ليناجيه، ليعيد الاتصال به. إذا لنبدأ من جديد كي نؤسس عالما جديدا مختلفا. نبدأه من البيت.