جالسة أمام أبي بمركز الأمن، بعد وصولنا أمرونا ببطاقات التعريف، سلمناها إياهم، بعد لحظاتٍ خرج شرطي ونادى باسمي: «أسمهان!»، نظرتُ إلى والدي عله يدخل معي، وقف هو الآخر على نية الدخول معي، منعه الشرطي قائلًا له: «هي بمفردها فقط سيدي، إنها بالغةٌ ولا تحتاج إلى وليِّ أمرٍ خلال التحقيق.» . لم أفهم شيئًا عن أي تحقيقٍ يتحدث عنه هذا الشرطي، لم أفهم ما دخلي بقصة اختفاء عبير بالضبط؟ هل عثروا عليها كما فهمت؟ أم أنهم يباشرون في البحث عنها؟ . دخلت في الحقيقة، ولا أنكر خوفي لأني لأول مرةٍ أتعرض لهكذا موقف، تحقيق! أسئلة! استجواب! لا أدري ما ينعتونه بالضبط، هل أنا في فترة امتحانٍ ابتلاني الله به؟ . في الغرفة شرطيان أحدهما ضابط يقابل البابَ وبجانبه مكتبٌ لشرطي ثانٍ يبدو أنه أقل رتبةً منه، أمرني الضابط بالجلوس وقال لي مباشرةً: «ما اسمك؟» . أعطيته جميع معلوماتي، اسمي العائلي و الشخصي وعمري وحالتي الاجتماعية وأخبرته أني طالبة بالجامعة أدرس اللغة الفرنسية بكلية الآداب واللغات، ثم سألني عن علاقتي بعبير، فأجبته أن عبير ليست مجرَّدَ صديقة عادية أو زميلة دراسة إنما هي أكثر من أختٍ لي، وأننا لا نتحرك إلى مكان إلا ونحن معًا ولا توجد واحدةٌ منا تخفي عن الأخرى شيئًا. وقف ضابط الشرطة واستدار نحو مقدمة المكتب وجلس يقابلني قائلًا: «حقًّا يا آنسة أسمهان أنك آخر من فارقت عبير؟ متى؟ في أيِّ ساعةٍ؟ وأين؟» ... تريثت في الإجابة للحظة، فعلق: «ماذا؟ ألا تعرفين الإجابة؟» أجبته حينها: «لقد فارقتها بعد عودتنا من الجامعة حيث توقفت بنا حافلة الطلبة حوالي الثالثة وعشرين دقيقة بالمحطة القريبة من نزل الشرطة بالعالية، ورأيتها لما ذهبت نحو الحي الذي تقيم فيه 190 مسكن.» – وهل اتفقتما على شيءٍ؟ – نعم سيدي، اتفقنا أن نتواصلَ عبر الهاتف مساءً بعد أن أنجز بحثًا، أتصل بها لإيقاظها من النوم لأنها كانت تشعر بمغصٍ على مستوى معدتها.ثم أردف قائلًا: «حسنًا، اخرجي إلى والدك ريثما يتم استدعاؤك بالمكتب الثاني بعد حين.» .خرجت من المكتب وجلست ثانيةً بقرب والدي، شفتاه لم تنبسا بكلمة، ولم يسأل حتى عما حدث داخل المكتب... كانت رسائل المسنجر تنهال رسالةً تلو الأخرى، زميلات وصديقات يسألن عني إن كنت آخر من رأت عبير، وهل تأكد أن المرأة التي تم العثور عليها بحي البخاري هي ذاتها عبير أم لا. لم أصدق، عادت الدموع تتساقط، و القلق من جديد، سألت والدي: «بابا، هل تم العثور على عبير يا ترى؟»لحظتها تم المناداة باسم زين الدين أخ عبير من الرواق، لاحظته هناك بعد مناداته، ولكنه كان بعيدًا لأسأله هل من أخبار عنها. بعد قليلٍ فُتِح الباب الثاني الذي كان جانب المكتب الذي حُقِّقَ فيه معي وطلب الشرطي مني الدخول. كان هناك ثلاثةُ أفرادٍ من الشرطة، من ثم خرج شرطيان ليبقى واحدٌ فقط، أمرني هو الآخر بالجلوس، كنت أريد التكلم، فأوقفني مشيرا بيده بالكفّ عن الكلام، وقال: «لحظة، أكمل ما في يدي ونتحدث.» . كان يدون شيئًا، كأنها ملاحظات، أو لا أدري، في الحقيقة رأسي مشوش ولا يستطيع استيعاب أي شيء، أصدقائي على الفيس بوك لا يزالون يسألون: هل حقيقة ما تم نشره أن الفتاة هي عبير؟ أقرأ الرسالة و الثانية ، يا ربي هل عبير تركتني ورحلت؟ ماذا أفعل من دونها إن كانت كذلك؟. رحت أردد بيني وبين نفسي: «بعيد الشر، بعيد الشر عليك يا عبير.» رفع الشرطي رأسه وهو ينظر إليَّ وأنا أكاد أثقب شاشة الهاتف بإصبعي وأنا أقرأ أسئلة الجميع إن كانت تلك الفتاة عبير حقًّا أم لا.رفعت رأسي وتجرأت مرةً أخرى على الكلام، هذه المرة لم يطلب مني السكوت ولكن استقبل سؤالي ببرود وكأن الأمر بعيدٌ عن الشعور بالإنسانية، قلت له: «سيدي هل حقًّا أن الفتاة التي تم العثور على نصف جثتها هي عبير؟»، فأجابني ببساطة: «طبعًا هي!»نظرت إليه بحمق، متعجبةً أكثر من برودة أعصابه وبموت عواطفه الإنسانية وهو يجيبني وكأن الميتة كانت فأرًا! ثم فُوجِئْت وأنا أضرب عليه المكتب بكلتا يديَّ: «لا، يا ربي، لا ليست عبير، عبير لن تموت، لم تمت، عبير لا تفعلها ولا تتركني لكم وحيدة.» . اندهش الرجل وبقي مكانه ينظر إليَّ وأنا في حالتي تلك، دخل أفراد من الشرطة يتساءلون عن سر هذا الصراخِ المدوي بالمكتب، وحاول الجميع معي لتهدئة روعي، تكلم معي أحدهم: «يا آنسة زميلنا أخطأ وليست الفتاة التي وجدناها صديقتك عبير، ها هم أهل عبير هادئون، لو كانت هي لكانوا يصرخون ويبكون كذلك.»بصورة ما رحت أقنع نفسي بكلام الشرطي المريح، وكأنه صادقٌ معي في حديثه ولا يقول هذا فقط لتهدئتي كما كنت أظن، أمرَ لي بكوب ماء، صبت لي شرطيةٌ كانت هناك من قارورة صغيرة بيدها، وناولتني إياه، تناولت الماء بلهفة الصائم العطش الذي لم يتذوق شيئًا طيلة اليوم.كنت لحظتها أشعلت شمعة أملٍ في قلبي أن الشرطي الذي استفزني إلى البكاء والغضب كان مخطئًا، وأن كلام الشرطي الثاني مريحٌ بالنسبة لي، هدأت نوعًا ما، وساعدتني الشرطية بالخروج من المكتب لتجلسني أمام والدي بهدوء ريثما أتحسن.كان وجه والدي مصفرًّا لم أفهم ما سبب شحوبه بالضبط، هل تغير لونه عندما سمعني أصرخ وأضرب المكتب؟ أم أن به شيئًا آخر، دقيقتان تقريبًا لاحظت أن عيون والدي تميل إلى الاحمرار وسألته: «أبي هل هي عبير تلك الفتاة؟» نظر إليَّ وقال باكيًا: «نعم يا ابنتي، إنها هي رحمها الله.» . لم أتمالك نفسي مرةً أخرى وأخذت أصرخ في وجه والدي هذه المرة: «عبير لا تموت، عبير لا تتركني يا أبي!» .كان والدي يعانقني ليواسيني، وأنا الأخرى أصده عني، لأني كذبته هو الآخر فيما قاله لي.تقدمت الشرطية هذه المرة، ظننت أنها جاءت لتهدئ من روعي، لكنها صرخت في وجهي: «تبكين الآن؟ أنت سبب اختفاء عبير، وتعرفين أين ذهبت، هل ندمت لموتها؟» أصرخ في وجهها: «ما تقولينه أنت؟ عبير ودعتها في محطة الحافلة كما أخبرتكم في التحقيق، والآن تشتبهون بي؟» ردت عليَّ بكل حزمٍ: «كيف؟ وأنت آخر من رآها، حتمًا أنك متفقةٌ مع أحدهم ليقوم بخطفها.» – لا أرجوك، عبير صديقتي وأختي وحبيبتي، لا يمكن أن أؤذيها ما حييت! ثم وأنا أشهق أخذت مني هاتفي الذي كان يصدر صوتا بإشعارات رسائل المسنجر التي كانت تردني لحظتها، وراحت تفتش بأصبعها فيها، ثم طلبت مني كلمة المرور للهاتف، ناولتني إياه وأنا أضع كلمة المرور، تشوش عقلي فوضعتها خطأً.حينها نظرت إليَّ وصرخت وكأنها ليست تلك التي كانت تهدئني داخل المكتب وناولتني الماء بيدها: «افتحي قفل الهاتف، لا تقولي أنك نسيت التشفير.» لا أدري كيف أخذت منها الهاتف وتذكرت كلمةَ المرور، كسرتها، وأعطيتها إياه: «انظري بعينكِ وحققي في رسائلي، لا يمكن أن أخونَ وأغدرَ بأختي أو أتلاعب بها، أنا موجوعةٌ ومفجوعةٌ بما حدث لها؟»«موجوعة؟!» (قالت بسخرية)، «ألم تري ما حدث لصديقتك؟ ماتت وقُطِّعت جثتها، ورُمِي بنصفها في مكانٍ مجهول، والنصف الآخر الله أعلم أيَّ وحوشٍ ضارية انتهكته.» – اسكتي بربك، لا تكملي علي، أنا لا يمكنني أن أفرط في عبير، لا يمكن أن أقتلها أو أعرضها للأذى. بعد قليل وصلت منى، كأنها هي الأخرى لم تعلم بما حدث، نظرت إليها: «منى، ماتت عبير، راحت وتركتنا وحيدتين.»