تعد التداخلات اللغوية في السرد ظاهرة لم يعرفها النص القديم، وقد ازدادت انتشارا في السنين الأخيرة، ما يجعل هذا التنافذ قابلا لمساءلات من أجل الإحاطة بأسباب هذه الانشقاقية اللسانية واللهجية التي أصبحت تميز كثيرا من النصوص الروائية والقصصية.هناك نوع من التقزيح السرديوالحواري، إذ تتحابك فيهما مستويات، بداية من اللفظة، إلى الجملة والمقطع، وقد يشمل صفحات.يسمّى هذا في الأعراف الروائية «اللغة الحرفية»، كما أشار إليها تودوروف، أو كما نظّر له النقد الغربي، وخاصة مع البنيوية التكوينية، أو مع النزعات التي احتكمت إلى العلاقة ما بين البنى الاجتماعية والبنى الأدبية، بشكل مختلف عن تمثلاتنا. ركزت المستويات اللغوية على التوليف في إطار اللسان المعياري الواحد، مع مجموع القواعد النحوية والصرفية التي تحكمه،وكانت هذه التوفيقية تهدف إلى تكييف السرود والحوارات وأنواع المناجاة خدمة للتفاوت بين الشخصيات، وبين الساردين لحظة انتقال السرد من درجة إلى أخرى، بعيدا عن أية أدلجة فظة. لقد أسهمت هذه المقاربات في إضاءة جزء من سبل السرد، كما أبرزت فجوات بعض التقنيات في تعاملها مع السرودوالشخصيات وانتماءاتها المعرفية والطبقية والدينية والاجتماعية والتعبيرية.لم يكن مستساغا أن تكون جميع الأصوات صدى لصوت المؤلّف ورؤيته، وقد كان لهذا الترجيع دور مهم في إقواء النظرية النقدية التي اتخذته نقطة استدلال. قد يسهم التفاوت اللغوي في مراعاة جانب التباينات بين الشخوص ليضع كلّ شخصية في خانتها، وهكذا سيكون لكلّ منها معجمها وأسلوبها الذي يمكن اعتباره بطاقة دلالية تحيل إلى انتمائها وهويتها، كما من شأنها أن تلعب وظيفة الفواتح من حيث إنها تنبئ بجزء من حقيقتها كعينات تعبر عن فئات اجتماعية مخصوصة. مع ذلك وجب التمييز بين هذه التصورات النقدية وبين «الشعبية» كنظرية للروائيين الذين ينقلون حياة عامة الشعب بواقعية بدائية، كما سماها جان ريكاردو، لأن هذا التوجه له منطلق لا يهدف إلى تحقيق الغاية الجمالية ذاتها،ولأن الرواية، أو القصة، توظف شخصيات متنوعة، فإن الحِرَفية سيكون لها دورها في إبراز هذه المفاضلات التي تساعد في تصنيفها وفق منطلق تمييزي. غير أن ذلك ليس تقنينا رياضيا يُخضعها لقانون جازم، ذلك أن للاستثناءات مسوغاتها، ولا يمكن إلزام الشخصيات بالتحرك في حدود لسانية نموذجية. قد يكون هذا الطرح حاملا لمغالطات يقع فيها النقد والإبداع، خاصة عندما يؤسسان على خلفية لا تسهم في ترقية الأدب من حيث إنه فنّ مستقل عن المؤسسات، وليس جهازا دعائيا لتمرير مواقف شعبوية. أما ما يميّز الخطاب الأدبي الحالي فيتمثل في اشتغاله على مستويات لغوية، خارج اللغة الواحدة، كأن تتم المزاوجة بين الفصحى والعامية.يمكننا الإشارة إلى نوع من الاجتياح الغامض، على اعتبار أن هناك تباينا في المفردات ما بين الشرق والغرب والشمال والجنوب، أو على مستوى الجهة الواحدة، أو ما بين الأحياء، وقد لا تكون البلدان العربية استثناء. هذه الاستعمالات تزداد حضورا، وقد تغدو قاعدة، وليس استثناء، كما حصل في البدايات الأولى للسرد العربي، قبل تراجعه عن الصيغ الهجينة لعدم قدرته على تكييفها وتدويلها، وكان انحسارها أحد أسباب التخلّي عنها والعودة إلى اللغة الفصحى كحتمية أملاها التلقي. لكن الرواية الجديدة اتجهت إلى الاستعانة بلغات أخرى من أجل أداء أمتن للقدرات التعبيريةالقاصرة، كما يرى بعضهم،في حين يرى آخرون أن هذا الزيغان عن القاعدة اللسانية المعيارية يخدم البيبنائية، أو العلاقة بين النص والمحيطكمجموعة من البنى المتماسة،ويؤكد هؤلاء على التفاوت التعبيري الذي يميز الشخصيات الدالة على فئات اجتماعية مختلفة، لذا نجد في العمل الواحد أكثر من لغة، إضافة إلى المستويات التي قد تتجلى في لغة الكتابة وأسلوبها، بمفهوم باختين. هناك روايات أخرى اختارت العامية، مع ما يتخلّلها من تشابكات معقدة، وهذا الخيار له مبرراته، وأولها التعبير عن المجتمع بلسانه، دون تنميق يبعده عن حقيقته، أي الإبقاء على الشكل التعبيري المتواتر، وبذلك يتم تحقيق مبدأ التداول بأقل تكلفة.مع ذلك يبدو أن الاشتغال على الدارجة ضرب من الصناعة الترقيعية التي لا تغلّ، إن لم تبهت الأشكال من أجل تكريس الحقائق التاريخية التي يتم التبئير عليها. هذه الملابسات تجعلنا نتساءل عن مقاصد النزعة الاختزالية التي وقفت وراءها طروحات تدعو إلى تخصيب النص،ومع أن ذلك أمر ممكن لتفادي السرود والحوارات المشبعة التي تعيد إنتاج الدلالات، فإن التعددية اللغوية في العمل الأدبي الواحد، قد لا تكون هي الحل الأمثل لنقل التنوّع، أو لامتصاص الأحداث والحالات التي ترغب الرواية في نقلها. إذا كان هذا المنحى صحيحا، فمعنى ذلك أن النظر في قدرات الآداب الكلاسيكية يغدوحتمية، علينا أن نتساءل عن الأسباب التي جعلت هذه الكتابات تنتقي لغة معيارية بتنويعات أسلوبية ومعجمية، كما حصل مع الواقعيين الاشتراكيين الأكثر دفاعا عن الطبعات الشعبية.كيف استطاعت هذه الآداب أن تكون خالدة رغم أنها لم تكسر الواحدية اللغوية التي ندعو إلى خرقها؟ لقد أصبح المتلقي في مواجهة نصوص لا تقرأ، بل إن هناك عناوين يمكن أن تتخذ عينات لدراسات في علوم اللغة، وفي اللهجات ومقدراتها وحدودها.الظاهر أن القارئ سيكون ملزما بمعرفة كل دارجة على حدى، لأن عاميته لن تكفيه. لا يمكننا الحديث عن تدويل لهجة دون أخرى، لأن ذلك يقلّل من شأن المتعاملين بهذه أو تلك، ولسنا بحاجة إلى أمثلة للتدليل على معضلة القراءة والتمثل. المسألة مربكة، إذ إنه، بالإضافة إلى إغراق النص في اللهجات التي قد تكون أكثر صدقا، حتى لا ننفي هذا الجانب، فإن النص يشهد تأثيثا بلغات أخرى، ومنها اللاتينية القديمة التي اندثرت،ومعنى ذلك أنّ على المتلقي اكتساب عدّة لغات لقراءة رواية محلية، بالمفهوم الجغرافي. ذلك أن هذه التعددية ستؤدّي وظيفة إلزامية، ومنها الوظيفة التعليمية المتعلقة بالبعد اللغوي الذي وجب ترقيته ليكون المتلقي مؤهلا لقراءة الروايات التي تستعين باللهجات واللغات الأجنبية،وقد تكون المسألة بالنسبة لتوظيف العامية عاملا من عوامل تبطئة القراءة، وقد نكون بحاجة إلى مترجمين على مستوى البلد الواحد. تشكل هذه التقاطعات متاعب للمترجم،إذ إن عليه مواجهة هذا التنافذ اللساني، ما يتسبب في جهد إضافي يفوق الجهد المبذول في الاشتغال على لغتين، لأنه لن يتعامل مع قاموس وجمل فحسب، بل مع مرجعيات لهجية وجب ضبطها للحفاظ على النص القاعدي،وإذا كان ذلك ممكنا، من حيث إن التداخلات مرتبطة بلغات رسمية، فإن ترجمة العامية تظل مضنية، ما عدا إن تم الإبقاء عليها، تفاديا للوقوع في مطبات سوء الفهم. هل للكتابة الروائية الحديثة مقاصد فنية، أم إنها تحاكي التجارب الغيرية التي اتخذتها مقياسا؟كلّ الأعمال الأوروبية والأمريكية التي وظفت فيها الدراجة انتقلت أثناء الترجمة إلى لغات فصيحة، ولم يبق فيها شيء من الدارجة المحلية التي أصبحت تشكل عائقا، الشيء نفسه بالنسبة للنصوص العربية التي ترجمت إلى لغات أخرى، ربما كانت هناك استثناءات، لكنها قليلة. هذا الطرح التبسيطي لا يحلّ مشكلة الدلالة، إن لم يسهم في تهجير القارئ والعمل على تجريده من الهوية جريا وراء وهم التحديث، أو تكريسا لمبدأ الانعكاس الذي ينزع عن الإبداع إحدى وظائفه القاعدية: الارتقاء بالمجتمع إلى مستوى الفن، وليس النزول به إلى الشعبوية.النصوص مدعوة لمساءلة نفسها إن كانت ترغب في إيجاد قراء، مع الإشارة إلى أن عدّة تجارب من هذا النوع عرفت إخفاقات لاستحالة قراءتها، وهي متوفرة في مكتباتنا. الكتّاب يعرفون الإحصائيات المتعلقة بالمقروئية في الوطن العربي، وعندما تأتي النصوص بعدة لغات ولهجات فإن نسبة المقروئية ستزداد انحسارا، وستفقد الرواية تأثيرها وبريقها.قد يتحجج بعضهم بنجاحات الأدب الشعبي، وتلك مسألة أخرى تعالج في إطارها، دون ربطها بلغة الرواية وهويتها اللسانية.