تشكل التداخلات اللغوية في السرديات الجديدة ظاهرة لافتة، وقد ازدادت انتشارا في السنين الأخيرة، ما يجعل هذا التنافذ قابلا لمساءلات من أجل الإحاطة بأسباب هذه الانشقاقية اللسانية التي قد لا نجد لها أيّ مسوّغ فني مقنع بالنظر إلى هشاشتها.يمكننا الحديث عن نوع من تقزيح للسرد في بعده اللغوي، إذ تتحابك فيه مستويات، بدءا من اللفظة، إلى غاية الجملة والمقطع، وقد يتجاوز ذلك حدود المقطوعة فيشمل صفحات يتعذر فهمها لأنها بلغة أخرى، غير لغة النص. يسمّى هذا في بعض الأعراف الروائية"اللغة الحرفية"، كما نظّر إليها النقد منذ عقود، وخاصة مع البنيوية التكوينية، أو مع النزعات التي كانت لها ميول أيديولوجية في حقبة مخصوصة تميزت بالاحتكام إلى العلاقة التناغمية ما بين البنى الاجتماعية والبنى الإبلاغية الدالة عليها، مع أن طرحها مختلف عن فهمنا. وإذا كان ليس في نيتنا التعليق على معيارية جزء من النقد، في منظوراته الآلية، فإنّ مسألة المستويات اللغوية، كما طرحت في الغرب، تأسست على مبدأ التأليفية في إطار اللسان المعياري الواحد، مع مجموع القواعد النحوية والصرفية التي تتحكم فيه، دون أي إخلال بالجانب التواصلي، وبالقواعد اللغوية، الأمر الذي لم نفهمه في سياقه التداولي. يبدو أنّ هذه التوفيقية كانت تهدف إلى تكييف السرود خدمة للتفاوت الفرضي بين الشخصيات، إضافة إلى الفروقات القائمة بين الساردين في المؤلف الواحد.المؤكد أنّ هذه النظريات أسهمت في إضاءة سبل السرد في حقبة ما، كما أبرز النقد فجوات الجملة السردية في علاقتها بالشخصيات وانتماءاتها المركبة، خاصة عند تأسيسه على الإسقاط بجعل الشخصيات ذات مستوى تعبيري نموذجي. لم يكن مستساغا أن تكون جميع الأصوات صدى لصوت المؤلّف، وقد كان لهذا الترجيع دور مهم في إقواء النظرية النقدية التي اتخذته نقطة استدلال لرأب الصّدع القائم في بعض النصوص، إن أمكننا الحديث عن هذا الصدع في بعده المعجمي، دون التطرق إلى الأبعاد الاخرى، ومنها الحمولة الأيديولوجية للحقول المعجمية. قد تسهم المستويات اللغوية في مراعاة جانب الاختلافات الفرضية بين الشخوص لتضع كلّ شخصية في خانتها الفعلية، وهكذا سيكون لكلّ منها معجمها الذي يمكن اعتباره بطاقة دلالية أخرى تحيل على انتمائها الطبقي والمهني، كما يمكن أن تلعب وظيفة الفواتح من حيث إنها تنبئ بجزء من حقيقتها الاجتماعية والنفسية، ذلك أن المعجم قد يغدو بطاقات دلالية لها دور في مجموعة من التحديدات. علينا التمييز بين هذه التصورات اللسانية المؤسسة وبين"الشعبي" كنظرية للروائيين الذين ينقلون بواقعية إملائية المحيط الخارجي وحياة العامة، لأنّ التوجه الأخير له منطلق آخر لا يهدف إلى تحقيق الغاية الجمالية ذاتها التي أشارت إليها نظرية الأدب. بيد أنّ ذلك ليس تقنينا نهائيا يخضع الشخصيات لقانون سردي جازم، ذلك أنّ الاستثناءات لها منطقها، ولا يمكن التأكيد على ضرورة إلزام الشخصيات بالتحرك في حدود لسانية عينية. قد يكون هذا الطرح حاملا لمغالطات يقع فيها النقد والإبداع على حدّ سواء، خاصة عندما يتأسس على خلفية غير أدبية لا تسهم في ترقية الأدب من حيث إنه أدب، وليس جهازا لتمرير مواقف تغرقه في الشأن الشعبوي والأيديولوجي، كما حصل في سياقات تاريخية سابقة. هناك كتابات تشتغل على المستويات اللغوية، خارج اللغة الواحدة، كأن تتمّ المزاوجة بين الفصحى والعامية في الحوار. وفي حالة الجزائر، يمكن الإشارة إلى نوع من الاجتياح الملّون لهذه الظاهرة اللسانية، على اعتبار أنّ هناك تباينا في المفردات ما بين الجهات المختلفة، أو على مستوى الجهة الواحدة، أو ما بين الأحياء، إضافة إلى التلوث الكبير الذي يميز العامية، ولا أعتقد أنّ البلدان العربية غير معنية بهذا الشأن الذي يحتاج إلى جدل عارف. ذلك أن عدة أعمال سردية عربية غير قابلة للفهم بسبب هذه اللهجات التي تجعل النصوص ملوثة. كما اتجهت الرواية الجديدة إلى الاستعانة بلغات أخرى، كالفرنسية كدعامة لخطاباتها، أو من أجل أداء أمتن للقدرات الإبلاغية التي تظل قاصرة، كما يرى هؤلاء في بعض تصريحاتهم.في حين يرى آخرون أن هذا الزيغان عن القاعدة يخدم جانب البيبنائية، أو العلاقة بين النص والمحيط المنتج له من حيث إنهما متكاملان، مع أن ذلك أقربي إلى الوهم منه إلى الحقيقة. ويؤكد هؤلاء على نقطة الصدق، على التفاوت التعبيري الذي يميز الشخصيات كعّينات نموذجية دالة على فئات اجتماعية لها انتماءاتها الاجتماعيةوأشكالهاالتواصليةالمخصوصة، لذا نجد في العمل الواحد لغتين أو أكثر. وقد تشمل الصفحة الواحدة أزيد من لغتين، إضافة إلى المستويات الممكنة التي قد تتجلى في لغة الكتابة، بالمفهوم الباختيني. إن الاشتغال على الدارجة، من منظور بعضهم، هو ضرب من الصناعة الترقيعية التي لا تغلّ، بل إنها قد تُبهت الأشكال القائمة التي تتكئ على نواميس راسخة، لذا تكون المحافظة عليها نوعا من تكريس للحقائق التاريخية التي تسم المجتمعات، تفاديالعزل الكتابة عن بيئتها التي أنتجتها في سياقات لسانية معينة. ومع أنّ ذلك أمر ممكن لتفادي السرود المشبعة التي تعيد إنتاج الدلالات المعيارية، فإنّ مسألة التعددية اللغوية في الجنس الأدبي الواحد، كما هي مفهومة حاليا، قد لا تكون هي الحلّ الأمثل للتدليل على التنوع والاختلاف، ولا على القدرة على امتصاص الأحداث والحالات التي يؤسس عليها العالم السردي في تعامله مع الأحداث والحالات والشخصيات والقضايا النفسية والاجتماعية. إذا كان هذا المنحى صحيحا، فمعنى ذلك أنّ النظر في قدرات الآداب الكلاسيكية والهالات يدخل في باب المساءلات المستمرة للجانب اللساني الموحد. علينا أن نتساءل، على سبيل التمثيل، عن الأسباب الحقيقية التي جعلت هذه الكتابات تنتقي لغة معيارية واحدة، بتنويعات أسلوبية ومعجمية: كتابات سوفوكليس وشكسبير وفيكتور هوغو، ومع ذلك لم تفقد قيمتها، ولم تبتعد عن محيطها الخارجي. عادة ما سبق الأدب علماء اللغة في اقتراح المفردات القابلة للمعايرة والاشتقاق والنحت والتوليد، ثم تأتي المجامع لتثبيتها وفق قوانين معروفة تشترط الحفاظ على هوية اللغة الجماعية، إلى أن تصبح متداولة بين الناس عن طريق التقعيد والاتفاق. حتى الدخيل له شروطه في مختلف المجامع والمؤسسات اللسانية، وفي اتحاد المجامع العربية، إن لم تكن هناك بدائل قادرة على الحلول محلّه لتشكل تكافؤات دلالية مقنعة، بيد أنّ التداخلات الحالية تجاوزت حدود اللفظ إلى الجملة والمقطع، ومن ثم أصبح المتلقي في مواجهة نصوص متعددة الألسن واللهجات المعقدة: الأمر يتعلق بالكتاب المكرسين وبالكتاب الهواة على حد سواء، كما لو أن هناك موضة يراد ترسيخها، عن وعي أو عن غير وعي. الظاهر أنّ القارئ المستقبلي سيكون ملزما بمعرفة كلّ دارجة في البلاد العربية حتى يكون مثقفا من الناحية السردية، لأنّ دارجته لن تكفيه لفهم النصوص التي تكتب في الأقطار العربية الأخرى التي لها هويتها وخياراتها ومكوناتها التاريخية. لا يمكننا، في كل الأحوال، الحديث عن تدويل لهجة عربية دون أخرى، لأنّ ذلك يقلّل من شأن المتعاملين بهذه أو تلك، ولا أعتقد أننا بحاجة إلى أمثلة للتدليل على هذه المعضلة التي ستسهم، لا محالة، في تعقيد المقروئية. أمّا في حالة السرديات الجديدة فإنّ المشكلة أكثر تعقيدا، إذ إنه، بالإضافة إلى إغراق النص في اللهجات المحلية، التي قد تكون أكثر دلالة وتأثيرا، حتى لا ننفي هذا الجانب، فإنّ هذا النص يشهد تأثيثا واضحا بلغات أخرى: الفرنسية والانجليزية والإسبانية والألمانية، وحتى اللاتينية القديمة التي اندثرت في بلدانها الأصلية التي لم تعد تفهمها. ومعنى ذلك أنّ على المتلقي اكتساب عدّة لغات لقراءة رواية مصرية او تونسية أو جزائرية أو إماراتية، بالمفهوم الجغرافي، ذلك أنّ هذه التعددية ستؤدّي وظيفة إلزامية، ومنها الوظيفة التعليمية المتعلقة بالبعد اللغوي الذي وجب ترقيته ليكون المتلقي مؤهلا لقراءة رواية واحدة، أو صفحة من الصفحات التي تستعين بلغات أجنبية لا يعرفها، وهي متنوعة وكثيرة في السنين الأخيرة. كما تشكل مثل هذه التقاطعات اللسانية واللهجية متاعب للترجمة، إذ تقف عائقا أمام النقل من اللغة المصدر إلى اللغة الهدف. فإذا كان المترجم يتقن لغتين، فإنّ عليه الاستعداد لمواجهة هذا التنافذ بوسائل أخرى، ما يتسبب في جهد إضافي يفوق الجهد المبذول في التعامل مع لغتين، لأنه لن يتعامل مع ألفاظ وجمل فحسب، بل مع مرجعيات ودلالات مختلفة تتجاوز قدراته المعرفية والترجمية. إضافة إلى ذلك، فإنّ مدارس الترجمة في حدّ ذاتها ليست على بيّنة من أمرها، وليست متفقة حول ما إذا كان يجب ترجمة التنافذات أم الإبقاء عليها في لغتها التي كتبت بها لأغراض عينية، احتراما للخصوصية النصية الأصلية، ثم الاستعانة بالهوامش لشرح الألفاظ والجمل والمقاطع، مع ما للهوامش من آثار سلبية من حيث إنها تشتت القراءة البصرية وتجعل النص نصوصا تحتية، كما يذهب إلى ذلك بعض المترجمين الذين لا يحبذون التهميش. كلّ أعمل غابريال غارسيا ماركيز، وغيره من الكتاب العالميين، التي وظفوا فيها الدراجة المحليةانتقلت أثناء الترجمة إلى لغات معيارية متفق عليها، بما فيها الترجمات العربية، ولم يبق فيها شيء من الدارجة. هل هناك خيانة للنص الأصلي؟ الشيء نفسه بالنسبة للنصوص العربية التي ترجمت إلى لغات أخرى. هل يجب على المترجم مراعاة كلّ هذه التقاطعات ليكون أمينا للنص المترجم؟ أعتقد أنّ كثيرا من النصوص العربية مدعوة لمساءلة نفسها إن كانت معنية بإيجاد قراء جدد في البلدان العربية، وإذا كانت ترغب في انتشار أوسع بتفادي الاستغراق في الاستعانة بالعاميات، مع التأكيد على أن عدّة تجارب من هذا النوع عرفت متاعب وإخفاقات لتعذر قراءتها، كما حصل مع البدايات الأولى للنصوص العربية المؤسسة التي بقيت محدودة الانتشار لصعوبة فهمها.