إنّ الشعرَ فكرةٌ وعاطفةٌ وموسيقى ..بغير الموسيقى لا يكون الشعرُ، ولولا الأذن ما كان الكلام، وما يتولّدُ من ارتباط المعاني، وما يندمج من ألوان الصّور، وما يتآلف من رنّات اللّفظ ..ليس إلاّ هذا الكائن الفنّي المتناغم الذي نسمّيه شعْرا، وكيف لا يكون الشعر موسيقى وهي التي تجلو الإحساس، وترفع من مستوى العاطفة، وتجعل الفكرة تتسرّبُ إليك بين الكلمات، كما تتسرّبُ روح الشاعر من خلال المسافات الصامتة المرتعشة التي تجيء بين النبرات والاهتزازات صعودا ونزولا في نصّ القصيدة . يقول ستيفن سيندر الشاعر والناقد الإنجليزي: « إن الشعر فنٌّ من الفنون الراقية.. والفن بقدر ما هو أداة تعبير عن هموم الإنسان، والدفاع عن قضاياه؛ فهو أداة اتصالٍ وتواصلٍ.. كما أنه لغة الوجدان ..فالشعر لصيقٌ بحياة الإنسان، وبمسيرة الإنسانية، وبمصيرها» الوطن اصطلاحا هو المكان الذي يعيش فيه الإنسان، ويرتبط به وينتمي إليه، وبعيداً عن العلاقة التي تربط المواطن بوطنه، التي تنظمها التشريعات والدساتير، ثمة علاقة أقوى وأعمق تعرف بتلك الحالة الوجدانية والمعنوية من الارتباط النفسي التي تتطور تدريجيا، فتبدأ بتعلم واكتساب الشعور بالمواطنة، والانتماء والحب والولاء لهذا الوطن، حتى تصل لدرجة الاستعداد ليضحي بحياته من أجله، وقد اختصر الشاعر جورج بايرون وهو شاعر بريطاني من رواد الشعر الرومانسي هذه العلاقة بقوله: «إنَّ من لا يُحِبُّ وطنَهُ لا يُمكنُ أنْ يُحِبَّ شَيْئًا». وقلما يعبر الإنسان العادي عن علاقة الحب التي تربطه بوطنه، فيما يبذل الشاعر جهداً مميزاً ليعبر من خلال قصائده عن عواطفه وأحاسيسه تجاه وطنه. وإذا كان للشعر هذه المكانة الرائعة فإن اقترانه بالأحداث العظمى يزيده قوة ومكانة في آنٍ معا، خاصة إذا ما وجد من الشعراء من يجمع قوة البيان بقوة التفاعل مع الحدث، لأن أخطر ما في الشعر كونه كلاما خالدا يتردد على الألسنة كما تتردد التحية بين الناس، وكونه محطّ أنظار الجميع بغضّ النظر عن مستوياتهم، ووظائفهم، وما ينقله تاريخ الأدب عن الشعر والشعراء قديما وحديثا؛ فربّ شاعر رفعته قصيدته إلى العلياء، ومصاف الأخيار، ورب شاعر نزلت به القصيدة إلى الهاوية، وما ذلك إلاّ أن الشاعر الأول أبدع فيها فنّا وأسبغ عليها من روحه ما بعث فيها الجمال، ومتعة التذوق لدى المتلقّي؛ وعندما نقرن الشعر بالوطن كهوية، وكفضاء للكينونة نكون أمام مُتعٍ ثلاثٍ: متعة الفن الشعري بخياله، وصوره الفنية، وموسيقاه، ومتعة الموضوع بزخمه، وروعته، ورمزيته، ومتعة مشاركة الشاعر في تفاعله مع الوطن، وتماهيه فيه، والتغنّي به. فضاء القصيدة.. لدى الشاعر أحمد مفدي : تختزن تجربة الشاعر أحمد مفدي فيضا من التميز، فالقصيدة لديه فضاء رحْبٌ تتراقص فيه المجازات، وتتبلور الرؤى، وتنفتح مصادر الجمال بمحمولاته الفياضة، وتتجلّى القيم الإنسانية: من خير، وحقٍّ، وحرية ، ومصير؛ لذا فكل قراءة مُوغلة في قصائده تكشف عن أبعاد ثريّة. يشكل الهمّ الوطني مكوناً رئيسًا من مكونات رؤية الشاعر أحمد مفدي، بحيث يندر أن يجد المتلقي قصيدة من قصائد الديوان الذي بين أيدينا، تخلو من هذا الهمّ المحلّي، أو العربي. ديوان» تأمّلات في تراتيل الناقة «: الديوان الذي بين أيدينا من الحجم المتوسط، عدد صفحاته 147، صدرت طبعته الأولى في عام 2014 م، يحوي إلى جانب الإهداء عشر قصائد زواج فيها الشاعر بين نمطين من الشعر، هما الشعر الحر، والشعر العمودي. لا يحتاج شاعرنا إذن أن يُصَدّر ديوانه بسيرة ذاتية، ولا تقديم تاريخي ونقدي، على القارئ لكي يعرف الشاعر ويغرف من نهر إبداعه أن يرفع شراعه للنسيم الشعري المنساب فتمخر سفينه عباب بحور هذا الديوان المتنوعة موسيقاه، والمكتنز بألوان اللآلئ البيانية، والدرر البديعية، في تنوع خلاق، يجمع بين التأملات الذاتية الصوفية للذات وللآخر، وللكون، وبين الصراع الأبدي بين الخير والشر في تمثّلاته الصراعية البشعة بين الإنسان وأخيه الإنسان. ومن خلال هذا الديوان، وما اشتمل عليه من قصائد، كقصيدة تراتيل الناقة في خرائب المعبد، فكر لي فأنا لا أفهم، أطلال حمص وجوارية الجبلين، الأحذية السوداء وأعراس العرب، وغير ها من القصائد ، نلمس ثورة داخلية عارمة تجتاح الشاعر، نتيجة لما يحسّ به ويعانيه من قلق نفسي، وإحباطات وصراعات تحيط بالذات الشاعرة، وبأمتنا العربية والإسلامية من جانب، وبما يعتري الشاعر من تأملات في الذات، وفي الكون، وفضاء الوطن. ثيمة الوطن تتصدّر تأمّلات الشاعر: تيمة عتبة العنوان لتجرّ المتلقّي نحو الإبحار في عالم الشاعر الصوفي، تركيبة العنوان اللغوية تحيلنا إلى رحلة الشاعر الصوفية من خلال التأمل الباطني، في النفس والتجربة الشخصية المستقلة والميل الجامح للرحيل عن هذا العالم، والتحرر من قبضته وقيوده، متماهيا مع تراتيل روحانية تتسامى فيها الروح. إن الشعراء باختلاف مشاربهم، وأفكارهم، وأطروحاتهم وتطلُّعاتهم أجمعوا على شيء هو حبّ الوطن، والشغف به؛ فكان الحنين إلى الأوطان وذِكْر الديار قاسمًا مشتركًا بين الشعراء والأدباء في كل العهود، والأزمنة؛ والشعر العربي، حافلٌ بقصائدَ عديدة حفلَت أبياتها الشعرية بحبِّ الوطن والحنين إلى الديار والأرض، والمتأمل لشعر أحمد مفدي يجد حبَّ المغرب يَسري بين شرايينه، وينبض به قلبُه وقلمُه؛ فإذا كان الظامئ يسأل عن مجري ساقية تتراقص شربة عشقٍ كالنور وضيئا في أعماق النفق، فالوطن كفيل بهذا، من قصيدة « خيمة المجذوب وأحباب الألق»: سأمدّ إليك قِرابًا يا وطني ...! ملْء سنابل مِن طُهْر الغيد وموج حنيني ...! وورودا ما زالت تذكرك ...! في مرحلة شبه يأس لم يجد الشاعر غير القُبّرة التي، وهي الطائر الجميل المحتفي بالحياة دوْمًا، والمرسل أغاريده الجميلة في الكون يجيبها، وهي منْ لامته لكونه شاعرا يحمل بين جوانحه قيم الحق، والفضيلة والجمال، ويرضى صامتا عمّا يرتكبه الأقوياء في حقّ الإنسانية، فيخاطبها، ويُسائلها عن الجبابرة المتحكمين في الأفلاك، كيف حوّلوا دفئها الحياتي إلى شُهُب حوّلت الكون يبابا، وكيف تكون الحياة محضن الكائنات إنْ هرب من الأقمار الضياء؛ فلم يبق إلاّ الهروب إلى الوطن ملاذا، من قصيدة « فكر لي فأنا لا أفهم»: هل ترضين ... يا قبرة الوادي إنْ قبس اليومَ رُعّاة الأفلاك شهابًا منْ أنْؤُرِ هذا الدفء المسجور إذا صار يبابًا ...؟ كيف الملْقى يا عاذلتي...! وتخنق الحيرة الشاعر، والقُبّرة ما انفكّت تعاتبه لمّا احمرّت أمواج النهر بدماء الأبرياء، وتاهت أرواح الثكالى بين الأرجل الفارّة من جحيم الموت في وطن كبير شاسع يسع الجميع، لكن القلوب لا تتسع لبعضها، بدلا من الورد تُزهر أشواك العوسج، من قصيدة»: يا عاذلتي هل تدرين إذا احمرّت أمواج النهر، وتاهت أرواح الثكلى...! بين الأرجل في الممشى عبثا...! أو كانت بين ضفاف المَرْوى كل الصيحات نُباحًا أو رفثا..! ويبقى باب الأمل لدى الشاعر مشرعا مهما كانت جيوش الظلام، وهو الشاعر الفنان المشبع بقيم الحق والخير والجمال، والداعي إلى المحبّة والسلام، إذ يرى ما لا يراه غيره في تأملاته، وإبحاره في سراديب الوجود، فيرى كل ذلك في اقترابه من الوطن وتودّده إليه فهو مآل النجاة، راحة الشاهر في محاورة هذا الوطن البهي، من قصيدة « عشّ القبرة وبوابات الريح الجزء الأول »: عِمْتُ صباحا أيّهذا الوطن...! لا تحزنْ ...! قد تطرق بابك في الليل نواقيس الحَزَنْ...! إنْ نضب الشعر وسرتَ بمنفاك حُدَاء...! الجرح العربي النازف يؤرق الشاعر : ما انفكّ الجرح العربي النازف هنا وهناك، والنار المشتعلة التي قضت على شرايين الحياة تؤرق الشعراء، ومنهم شاعرنا أحمد مفدي، سيّما إنْ كانت في أرض الشام مهد الحضارات، وخاصة مدينة « حمص» عروس الشام التي تآمر عليها القاصي والداني، وهي النخلة السامقة التي كانت محضن الجميع، ومورد الغذاء الطيب، هي الآن تترنح، فقد جريدّها لونه الأخضر، واختفى بلحُها، مدينة تكالب عليها الرعيان فغاض ماؤها، وانفضّ سُمّارها، وهجرتها الحياة ،وانكسر الفرح فيها، وتسيّد وميض الحزن في عيْنيْها، من قصيدة « أطلال حمص وحوارية الجبليْن» أمير القتلة»: تترنّح « حمص» كالنخلة في بيداء العبث...! يا نخلة حمص، لا سعفٌ فيك ولا بلحٌ...! لمّا روَّح رعين ( العاصي)... غاض الماء هباء وانبطحوا...! وانفضّ السُّمّار على خجلٍ وانكسر الفرح...! لكنك أنت النخلة آتية من جبل الرضوى...! حيث الصفو تسنّى والمرح... الشاعر في قصيدته ما قبل الأخيرة بالديوان يصدم القارئ بعنوان مشحون بالفجائعية مما يؤدي بهذا المتلقّي أن يتهيّأ لتواتر جرائم الإنسان ضدّ أخيه الإنسان سيّما إنْ كان الدم المُراق عربيا/ عربيا، وبأيدي عربية، الكل يقاتل ب « الله أكبر»، والكل لم يترك لا نسلاً، ولا حرْثًا، من قصيدته « : ومات الناس عطاشًا...! مرّت عربات القرصان تُقلّ جراحًا لا تندمل...! فهتفتُ : يا سارية الجند ...! هل يغفر زهْوُ القاتل...! ذنْبَ المقتول وقد بايعه القتلى منذ زمان... يتميز شعر الأستاذ أحمد مفيد بصدقه، وانعكاسه للواقع، شعره مرآة عصره، وصورة جليّة لحياته، ومرآة لما حوله من أحداثٍ، واضطراباتٍ، وحروب، بلغة صوفية شفّافة. قصيدة عصيّة، غير مطواعة للمتلقّي الكسول، يجنح إلى اختيار الألفاظ الشفّافة، والصور الفنية الرائقة، والمعاني التي تحتاج إلى عمل عقلي دؤوب ليهضم ويحلل، ويستشرف أفق هذه الفيض الشعري الجميل، والمُمتع.