تحيي الجزائر الذكرى الثانية للحراك الشعبي الذي انطلقت فيه حناجر الحشود الجماهيرية في ربوع الوطن مرددة عدة شعارات منها إسقاط العهدة الخامسة للرئيس السابق ومعها إسقاط رموز نظام الفساد الذي عشش في البلاد مع بداية الألفية الثالثة. و اليوم بعد مرور سنتين على هذا الحدث الوطني الهام الذي غيَّر كل المسار السياسي للبلاد ماذا تحقق من تغيير في الجزائر سياسيا واجتماعيا واقتصاديا؟ إن الجواب على مثل هذا السؤال متعدد الجوانب لا يتَّسع له مقال واحد معدود الكلمات، بل يحتاج منا وقفة تأمل طويلة نسترجع من خلالها كثيرا من الأحداث التي غيَّرت الساحة الوطنية من جهة و أيضا تفكير الشعب الجزائري وعلى رأسه فئة الشباب. إن المتأمل في الشعارات التي رفعها المتظاهرون بداية من يوم الجمعة 22 فيفري 2019 والتي رددتها بعد ذلك الحناجر الشعبية كل جمعة في الشهور المتتالية أذهلت العالم بسلمية الحراك الشعبي وبالمطالب المشروعة والتي ظلت حبيسة طغمة من السياسيين سواء على مستوى هيئات المؤسسات الرسمية للدولة الجزائرية أو على مستوى كثير من الأحزاب السياسية المتعددة ، والطامح قياديوها للوصول إلى اعتلاء كرسي الحكم واقتسام الغنيمة وخطفها من أفواه الشعب ، الذي صار مغلوبا على أمره ، تفشَّت في أوساطه الرشوة والتلاعب والسرقات العلنية للمال العام باسم كثير من القوانين التي صِيغت لتحقيق مصالح طبقة معينة، مثل قوانين الاستيراد والقروض من البنوك الحكومية والاستثمار في شتى المشاريع التي تحقق الربح السهل والسريع لذوي النفوذ من الطبقة الحاكمة في ظل غياب المراقبة الكلية للهيئة التشريعية التي اعتلت عرش الغرفتين البرلمانيتين السفلى والعليا بشتى الوسائل الدنيئة وعلى رأسها المال الفاسد. مكتسبات لا ينكرها إلا جاحد اشتُريت الذمم أثناء الانتخابات المزيفة ، واضعة أمام أعينها أن ما يُدفع من مال لاعتلاء كرسي البرلمان سيُجنى من ورائه الملايير من الدينارات ، التي تُحَوَّل بالعملة الصعبة، وتوضع في البنوك الأجنبية قصد استثمار فوائدها في تحقيق المصالح المادية الضيقة لأبناء هؤلاء الذين زُعِم أنهم يحكمون بلاد المليون ونصف المليون من الشهداء ، و يتبوّؤون بها العصر الحديث الذي أصبحت فيه الدول تعتلي أعلى مراتب التطور التكنولوجي في كل مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية و الحوكمة الرشيدة في إدارة وتسيير مؤسسات الدولة، ومواجهة التحديات العديدة الناتجة عن العولمة التي لم تعُد ترحم أي دولة مستضعفة. إن التغييرات التي أحدثها الحراك الشعبي لا ينكرها إلا جاحد، فقد أصبح الأمل يَدُبُّ في النفوس وتلوح خيوط الفجر الجديد لتبدد العتمة التي تسلطت على البلاد لبرهة من الزمن. لقد رعا الجيش الشعبي وقيادته من أبناء هذا الوطن المخلصين الحراك الشعبي ورافقوه في سلميته ، ولعبت العدالة دورها في متابعة الفاسدين قضائيا ودُكَّ بالعديد منهم في السجون، وبدأت ملامح الأمل تعود إلى الأنفس العطشى للانعتاق من الظلم والاستعباد الممارس خصوصا على الطبقات الشعبية وعلى رأسها الشباب. غير أن الذي أوقف عجلة التغيير وجعلها تسير بخطى بطيئة وخاصة بعد انتخاب الرئيس السيد عبد المجيد تبون هو تسلط وباء كوفيد 19 الذي اجتاح العالم وتركه يعيش في مرحلة جديدة من التاريخ المعاصر للإنسانية. و رغم ذلك تَمَّ وضع مسودة لتعديل الدستور والذي يعتبر اللبنة الأولى لبداية التغيير الذي ليس من السهل تحقيقه بين عشية وضحاها، بل يتطلب جهودا جبارة لإصلاح ما خرّبه الغير في ظل النظام الفاسد طيلة 20 سنة ، فكان من نتائج الاستشارة الواسعة أن وضع دستور جديد للبلاد وتم الاستفتاء عليه في الفاتح نوفمبر 2020، ويعد هذا الإنجاز مكسبا كبيرا لما ينتظر من تطبيق الكثير من المواد التي ستغير لا محالة واقع الجزائر وتدفعها نحو أفق جديدة. لقد ثمن الدستور الجديد الحراك الشعبي حيث جاء في ديباجته ما يلي: «يعبر الشعب عن حرصه لترجمة طموحاته في هذا الدستور بإحداث تحولات اجتماعية وسياسية عميقة من أجل بناء جزائر جديدة، طالب بها سلميا من خلال الحراك الشعبي الأصيل الذي انطلق في 22 فبراير 2019 » فهو بهذا الاعتراف الصريح بالحراك الشعبي وما حقَّقه من مكاسب وطموحات مشروعة لإحداث « تحولات اجتماعية وسياسية عميقة من أجل بناء جزائر جديدة » يكتب صفحة ناصعة في مسار بناء الجزائر الجديدة. هذا الطموح ، وهذه الآمال المعلَّقة لن تتحقَّق إلا بعد القضاء على جذور الفساد السياسي و الاختلال الاقتصادي والفوارق الاجتماعية و الجهوية . يتطلب هذا من كل أبناء الوطن خطوَ خطوات ثابتة ومدروسة بتشخيص الوضع أولا و تحيين القوانين وإجراء انتخابات نزيهة وشفافة ، تفرز صناديق الانتخاب عبر ربوع الوطن شخصيات وطنية مؤهلة وذات كفاءة غير ملطخة أياديها بالمال الفاسد، شخصيات تقود المجالس الشعبية البلدية و الولائية المنتشرة في أكبر دولة في القارة الإفريقية، و اختيار أسماء ذات مصداقية وكفاءة في البرلمان بغرفتيه ، حينها يبدأ قطار التغيير يسير في نحو وجهة صحيحة و على سكة سليمة فيصل بهذه الأمة المكافحة إلى محطة الأمان والاستقرار، محطة يتمتع فيها كل جزائري وجزائرية بجميع حقوقه المشروعة ، ويقوم بواجباته الشخصية والأسرية والاجتماعية على أكمل وجه، ويساهم في عملية التغيير الحقيقي الذي لا يقوده إلا مَن أخلص لهذا الوطن وعمل من أجل تطوره وازدهاره.