من كم يوم وصلني كتاب حياتي في دائرة الضوء للقاص الروائي بشير خلف المتجذر في أرومة العربية نطقا وكتابة ، وحين باشرت قراءته لم أهجره حتى أنهيته لما ألفيت فيه من متعة وتجربة حياتية وجزالة في الحياكة والنسج. الكتاب في 480 صفحة من الحجم المطلوب، وعلى الرغم من هذا الحجم الورقي الذي يضاهي كبريات الروايات العالمية مثل "جذور" لأليكس هالي ،و "الحرب والسلم" لتولستوي، فإن القارئ لا يجد عنتا في مواصلة قراءته ، ولا يداخله تخمين هجره نهائيا أو العودة إليه من حين إلى حين كلما وجد فرصة. إن هذا الكتاب من قبيل أنك إن شرعت في قراءته لن تتركه بقراءة أخرى حتى تنهيه تماما ,وقلبك عامر بالرضا والحبور، وقراءتك لهذه المصنف كما يقول "تودورف" في ذكره لأنواع القراءة قراءة شاعرية خالصة ، بحيث تتلمس الصدق والعفوية والعذوبة تتساوق في تناغم عميق وانسجام تام، وأنت تقرأ تشعر أن بشير خلف لا يخاطبك من عل أو من بعيد ، وإنما تحس أنه بقربك ينفتح أمامك ومعك كما الكتاب تماما، فتشعر بغبطة، خاصة أن الكاتب ليس شخصية عادية ، إنما هو رجل ثورة وأديب من الطراز العالي ، ومن الطينة النادرة ، حياته كلها كفاح ومثابرة ومغامرة مدروسة بدقة متناهية ، أحداثها تعود إلى الورى عقودا من الزمن ، ومع هذا التباعد الزمني نشعر بحياتية النسج، فكأنما جلها من عهد حديث، لما تشمله من دقة وتفصيل لجزئيات حياتية عابرة للزمن والمكان الذي يتنوع ويتجدد من محطة إلى أخرى ، ناهيك عن رونق العبارة المتأتية من خلف العشق بالعربية وأسرار تعبيرها. مسقط رأسه وعبير نشأته : جاءت المفكرات مفصلة إلى 20 مفصلا، مؤثتة بتوطئة ضمنها مفهومه لأدب السيرة والاعتراف برؤية مغايرة للمألوف ، إذ عرض فيها تصوره الخاص لأدب السيرة مستمدا إياه من قراءاته وإفاداته المرجعية لمفهوم السيرة في الأدب، ومذيلة بأهم التكريمات التي حظي بها في حياته. يطالعنا المفصل الأول بمسقط رأسه وعبير نشأته ونمائه طفلا غريرا يعشق منبته الأول ويهيم به أينما حل وارتحل، ويظل مكان ولادته نواة عميقة تنتقل معه خلال مراحل حياته واسما إياه بالمكان الأصيل، فمن أسوار منيعة، إلى ربوع سوف، إلى فضاء " قمار" تاريخا حافلا بالأمجاد وبعلماء وقعوا توقيعاتهم الخالدة ، وتركوا آثارا يفخر بها الوطن، ماتعا وممتعا بسرده وحكاياه العابقة بالعشق والصدق في إبراز وتجل، سخيا في فيض رحيق طفولته وصباه . ثم يشرع في تشريح ذاكرته المترعة بالوجع كما وصفها، راسما ملامح الغرفة المتواضعة التي استقبلته منزلقا بصرخته الحياتية الأولى، إلى الوجود مستعرضا عديد التفاصيل المتعلقة بأصول عائلته وامتداداتها في الزمان والمكان عبر الكثير من المآسي التي شهدها إقليم سوف من غزو، وسلب، وفتن، واجتياح الجراد ، والأوبئة كما يقول ،إلى مشاهد الأمراض الفتاكة بالعقل والبدن والفقر والفاقة الشديدة والجوع ، وترقب بون التموين الغذائي البائس والقليل ،عارضا تلك المشاهد المروعة بأسلوب من عاش جمرة الأحداث بكيانه ووجدانه دون تجاوز مشاهد عاش أوارها بحرقة ووجع حينا ، وتفاؤل وحبور حينا آخر، مستعرضا سيرته الذاتية ابتداء من ولادته بقمار ولاية الوادي، إلى نشاط أسرته الصغيرة وممارستها للفلاحة البسيطة لكسب قوتها من غرس النخيل وجني المحصول الذي ترى فيه رزقا وكفافا وعفافا من الحاجة، دون أن ينسى المهام التي كانت تنهض بها المرأة القمارية على أكمل وجه، يصف هذا الدور البطولي الذي ما ادخرت جهدا في الحضور والغياب فيقول : (ما كانت المرأة القمارية إنسانا هملا، أو مهملا، ومهمشا في التركيبة السكانية القمارية بقدر ما كانت زوجة صالحة ، أجادت ولا تزال تجيد تربية النشء،على أسس القيم الإسلامية ، والتشبع بروح التسامح والتعايش ، واحترام الآخر، وزرع روح التعاون، واحترام الجار، وتقديس صلة الرحم، كانت الذراع الأيمن للزوج و لا تزال في حماية الرابطة الزوجية ،والشريك الاقتصادي معه ليس استهلاكا بل إنتاجا في النشاط الفلاحي في فصلي الربيع والصيف....) ص 25. المرأة القمارية : وقد فصل وأبان بعض الخلفيات المرتبطة بالمهام والواجبات التي تنهض بها المرأة القمارية ،كالوفاء ،وتحمل جزء كبير من أعباء البيت الزوجية وتربية الأبناء تربية إسلامية ، ودفعهم إلى تحمل جزء من الأعباء منذ نعومة أظافرهم لمساعدة الوالد على تكاليف المعيشة، ولذا نشا صغار وفتيان قمار على العمل في الحقول أو التجارة، وهو ما قام به بشير خلف فيما بعد حين رحل إلى عنابة طلبا للشغل ، وقد أهله تلقيه أصول القاعدة التعليمية بالكتاب أو المدرسة الفرنسية بقمار التي سعى إلى الانتساب إليها ،خفية عن والده الذي كان يرفض رفضا باتا أن يتعلّم ابنه في مدارس تابعة للاحتلال الفرنسي، وفي هذا الجزء عرض الكثير من التفاصيل الحياتية. وحين يلفي فرصة للشغل الذي كان صعب المنال رحل إلى عنابة، ليعمل بمتجر أحد تجار بلدته الذي أحسن وفادته بعد جهد جهيد للحصول على ترخيص التنقل من قمار إلى عنابة برخصة أو هوية تحمل جنسية فرنسية، وقد تميزت رحلته بمعية صديقين رافقاه في رحلة عنابة إلى متاعب جمة لانعدام وسائل النقل، فكانت السفرية أو الرحلة أشبه برحلة خرافية لما شملته من متاعب ومخاطر و مشاق ، وبعد جهد جهيد أستقر به مقام العمل المؤقت عند الحاج رضوان بسعر زهيد ، لكنه كان بالنسبة إلى ظروفه العسيرة فتحا مبينا في آفاق الحياة العملية، وكان راضيا بهذا النصيب على الرغم من خطورة المكان الذي يوجد به المحل ، وهو أصلا محتشد ، أسكن بالجزائريين في ضيق عسير حتى يكونوا تحت أعين الرقابة العسكرية الفرنسية الدائمة إضافة إلى مشقة العمل الذي يبدأ وقوفا من الخامسة صباحا حتى السابعة مساء تزامنا مع دخول حظر التجوال. يصف المتجر المتواضع الذي كان يشتغل فيه بمعية شابين من أبناء بلدته قمار متخذين منه مأوى ومطبخا لانعدام مكان يأويهم ، فيقول : (المتجر كان خاليا من كل مستلزمات معيشة الآدمي،لا بيت خلاء ، فالمقهى القريب ضالتنا،لا مطبخا،تحت المقصف الكونتوار ،عادة نعد طعام العشاء، في القيلولة نكتفي بلمجة خفيفة، لا مكان للنوم،فالنوم في أي فضاء فارغ من المتجر فوق أكياس السميد الفارغة، لكل واحد منا نصف يوم راحة في الأسبوع...) العمل الثوري : وبعد معاناة عسيرة وكدّ وجهد يحصل على متجر خاص وسط عنابة شريكا لصاحبه، ثم مستقلا بملكية متجر صغير في عمق المدينة، أين تعرف حركة دائمة للعساكر الفرنسيين ،كان ذاك عام ستين، وفي هذا الفضاء تنفرج حياته على عالم آخر مشحون بالوطنية والوهج الثوري ، حيث ينخرط في نواة للفدائيين الجزائريين الذين ينجزون أعمالا فدائية في وسط المدينة، بالتنسيق مع ثوار الجبهات القتالية تحت إشراف رئيس الخلية الذي كلفه بمهمة مراقبة الخونة مساعدي العسكر ، والتبليغ بكل ما من شأه يخدم الثورة والثوار،متخذا من محله الصغير مرقبا يرقب منه كل الحركات والتقاط الأخبار التي تخدم الثورة ، وبخاصة من خلال العساكر الذين يفدون إلى متجره لاقتناء بعض مستلزماتهم،استمر على هذا الحال في الجمع بين ممارسة التجارة في متجره وإمداد قادة الثورة بالأخبار التي تسهل لهم القضاء على الخونة والضباط العسكريين المرصودين، إلى أن اكتشف أمره ، وأودع سجن " لامبيز" بعد محاكمته بتهمة التعاون مع الثورة من خلال خلية الفدائيين في عنابة. يستغل نزوله بسجن " لامباز" بتازولت، فيذكر تاريخه واقفا على تسميته وموقعه الاستراتيجي ، وحجمه في شكل قلعة متعددة البنايات عامر بالرهبة والانعزال عن الوجود الخارجي ،سجن قاس ومنيع ، فيه تسلب حرية السجين تماما، وتلغى هويته ، فيتحول إلى رقم من الأرقام ضمن مفهوم القطيع حيث يجرد من إنسانيته ويغدو رقما فحسب، فيه تعرف على ثوار وفدائيين فتوهجت عزيمته توقا إلى الثورة والثوار خارج قلعة السجن، ولما دخلت الثورة الجزائرية مرحلة المفاوضات أطلق سراحه وانضم جنديا عاملا في صفوف الجيش الوطني الشعبي... انضمامه لصفوف الجيش الوطني الشعبي كان بإيعاز قياديين في جبهة التحرير الوطني، تنقل في عدة ثكنات عبر ربوع الوطن، ولما شعر بشغفه لمواصلة الدراسة والانتساب إلى مهنة التعليم. طلب من قادة الجيش آنذاك تسريحه بسبب حاجة والدته وإخوانه إليه ،..لتبدأ رحلته الأخرى في سلك التعليم ، حيث درس في العديد من المناطق، إلى أن استقر به المقام قريبا من مسقط رأسه وانكب على القراءة بنهم شديد ومتعة لا تضاهيها متعة أخرى، فكون نفسه تكوينا عميقا، وترقى في رتب التعليم حتى امتلك كفاءة عالية، وبعدها نجح في مسابقة التفتيش ، وصار يشرف على مقاطعة شاسعة وخلال هذه المرحلة استعرض مراحل التعليم في المدرسة الجزائرية، ووقف عند سلبياتها وبعض مثالبها التي عثرت مسيرة المنظومة التربوية..ليجد نفسه مبدعا من الطراز العالي في مجال كتابة القصة القصيرة وبدأ النشر في أهم الصحف الوطنية والتي كانت لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة،حتى خصص القائمون على مجلة آمال التي كانت تعنى بالقصة والرواية عددا خاصا لتميز نصوصه بالجزالة والقوة والبساطة الممتنعة ومعانقة الواقع بحس فني راق. الحياة الإعلامية والثقافية : إلى جانب وظيفته الأصلية التي حقق فيها نجاحا متميزا بجده واجتهاده في البحث عن المجدي من طرائق التعلم، وتقديم الأفضل إن على مستوى التأطير، أو على مستوى اقتراح المناهج والطرق المجدية المستوحاة من الكتب والمراجع التي كان يقتنيها من المكتبات التي تجلبها من المشرق العربي،أو على مستوى آليات التعامل مع المتعلمين ،وكسب احتراما كبيرا من قبل المعلمين الذين كان يشرف عليهم تقييما ،أو تأطيرا أو ترسيما، فإلى جانب وظيفته هذه كما أسلفت اشتغل متعاونا مع بعض الصحف الجزائرية وبخاصة صحيفة المجاهد الأسبوعي أيام مجدها وتألقها مهتما بنشر بعض مشاكل قمار وواد سوف للتقليل من حدة معاناة ساكنتها ،ثم صار رقما إعلاميا بارزا ،مع مداومته على الكتابة القصصية والروائية ،فقد نشر في هذه المرحلة العديد من الأعمال الإبداعية ،وبعضها أعيد طبعه لقيمته المضمونية والفنية والجمالية.كما اهتم بتنشيط وتفعيل الحياة الثقافية في مدينة الوادي وضواحي بما كان يقترحه من ندوات ولقاءات أدبية وثقافية، تحت لواء الجمعية الثقافية لبلدية قمار التي استطاعت بفضل أعضائها النشطين أن تحدث نهضة ثقافية غير مسبوقة وترسي تقاليد ثقافية تأسيسية للحياة الثقافية بالمنطقة من خلال مختلف المهرجانات والفاعليات الثقافية الدائمة. وسيلفي قارئ هذا المتن الرصين الذي لا يقل أهمية عن «الأيام» لطه حسين ضالته فيما يشمله من تنوع وثراء ،وتجربة حياتية، وخبرات أكتسبها بجده واجتهاده،إذ كان لسان حال منطقته ثقافيا وإعلاميا،وتقديم قراءاته المرجعية من مختلق الكتب العلمية والأدبية والنقدية والفنية مما يسهل على الباحث أو المهتم الإحاطة بالحياة الثقافية آنذاك الإحاطة الشافية، إضافة إلى الوقوف على سيرة ومنجزات بعض أعلام منطق واد سوف ، فقهاء، مؤرخين ، نقاد ، فنيين، إعلاميين ..الخ ، ولعل أبرز جمعية ثقافية تركت بصمة عميقة في المشهد الثقافي لوادي سوف جمعية الرابطة الولائية للفكر والإبداع التي كان لها الفضل في إظهار بعض الأصوات الأدبية ،عن طريق تشجيعهم وطبع أعمالهم ناهيك عن تنظيم مسابقات،وندوات وملتقيات فكرية وأدبية عبر ربوع ولاية الوادي. والملفت أنه خص مفصلا من مفاصل سفره للعلامة شيخ المؤرخين أبي القاسم سعد الله ،والباحث في التراث الطاهر بن عيشة،والروائي البارز الطاهر وطار، كما خص المفصل ما قبل الأخير والأخير لكتبه وإنجازاته في ميزان النقد، والإفادة من مختلف رحلاته إلى تونس ، واليونان وتركيا والقاهرة وغيرها من البلدان العربية التي زارها مشاركا في تظاهرات ثقافية أو سائحا.