أدب الرحلة، هذا الجنس الأدبي، الذي يسجل فيه الأدباء والرحالة، تفاصيل رحلاتهم وأسفارهم، بلغة أدبية فيها الكثير من التشويق والفن والسرد الجميل، فكثير من كُتاب العالم استثمروا رحلاتهم إبداعيا ووثقوا لها فنيا في أعمال أدبية مختلفة، من قصص وروايات ومقالات وغيرها من فنون الكتابة. كان أدب الرحلة في وقت سابق «العين» التي يرى بها القراء العالم، من خلال انطباعات الرحالة والكُتاب والأدباء الذين كتبوا وخلدوا رحلاتهم وحياتهم في بقاع العالم التي زاروها لسبب من الأسباب، أما اليوم، فقد اختلفت «العين» التي أصبح يرى بها الناس العالم، حيث بكبسة زر ينساب العالم، كل العالم بمدنه وجغرافياته وتضاريسه من خلال شاشات الكمبيوتر. السؤال هنا: هل يوجد أدب رحلة في الجزائر، وكيف هو حاله وواقعه؟، ولماذا معظم الكُتاب في الجزائر ورغم سفرياتهم الكثيرة والمتتالية لا يستثمرون رحلاتهم وانطباعاتهم في هذا المجال من الكتابة، ومن جهة أخرى هل بسبب عزوفهم عن هذا الفن ساهموا في ندرة وقلة أدب الرحلة في الجزائر؟ أدباء ونقاد وأساتذة من جامعات جزائرية مختلفة، يتحدثون عن واقع «أدب الرحلة» في الجزائر، في ندوة «كراس الثقافة» لهذا العدد. إستطلاع/ نوّارة لحرش سعيد بوطاجين/ كاتب وناقد ومترجم أدب الرحلة ظل في الدرجة الأخيرة رغم قيمته الكبيرة يتجه أغلب الكتَاب والمفكرين والمثقفين والفنانين، على تنوَع خياراتهم، إلى الرواية والقصيدة والقصة واللوحة والمنحوتة، أي إلى الجنس الذي يميلون إليه بفعل عدة أسباب. أمَا أدب الرحلة فظل في الدرجة الأخيرة، رغم أن هؤلاء سافروا كثيرا وعرفوا شؤون الأمم وحضاراتها وتاريخها ومدنها. من الصعب تحديد الأسباب الحقيقية التي أدت إلى خفوت هذا النوع، أو انمحائه، رغم قيمته الكبيرة في إضاءة المتلقي بمجموعة من المعارف التي لا يستطيع الشعر والسرد الإحاطة بها، وقد يكون هذا الخيار، في سياقات، أفضل من السرد الروائي من حيث زاده وقدرته على توصيف الجغرافيا وحمولاتها. أتصور أن ذلك سيتحقق لاحقا، وسيتجه الكُتاب، على اختلاف أذواقهم، إلى الاهتمام أكثر بأدب الرحلة في فترات تتطلب تلخيص التجربة المرتبطة بالأسفار وتأثيراتها في طريقة التفكير والكتابة، كما يفعل حاليا الشاعر عياش يحياوي والمهندس محمد حسين طلبي، الجزائريان المقيمان في كل من أبو ظبي والشارقة، وقبلهما أحمد رضا حوحو، إضافة إلى ما كتبه لاحقا الدكتور أحمد منور، والقاص والروائي الأستاذ رابح خدوسي الذي نشر كتابا خاصا برحلاته، وهو كِتاب مؤثث ومثير على عدة أصعدة لأنه ينقل تجربة مميزة، وبذكاء. نشير إلى أن هذه الرحلات كانت معروفة في الجزائر ومتواترة في أوقات سابقة، وهي كثيرة جدا، قياسا بمنجزنا الجديد الذي أغفلها تماما، أو كاد، ويمكن العودة إلى ما كُتب بداية من القرن الحادي عشر، إضافة إلى الترجمات التي قام بها المرحوم أبو العيد دودو، أي تلك التي اهتمت بالرحلة إلى الجزائر. وقد أشار أبو القاسم سعد الله إلى هذا الجنس باستفاضة كبيرة يمكن الاستفادة منها. هناك أيضا شذرات منشورة هنا وهناك، في اليوميات والمجلات الوطنية، وقد قام بذلك بعض الكُتَاب، وهو الشيء الذي قمتُ به شخصيا في ملحق الأثر بالجزائر نيوز عندما دوَنت تنقلاتي إلى المدن والبلدان، استعدادا لنشر الأسفار في مؤلف مستقل، سواء في الوطن أو خارجه. يجب القول بأني مهتمَ بهذا النوع أيما اهتمام لأنه يشدني إليه، وعادة ما أفضله على كثير من السرد الباهت الذي لا يقدم شيئا للقارئ المنبَه، ما عدا بعض الحكايات الساذجة التي لا قيمة فلسفية لها، ولا وظيفة تنويرية أو جمالية يمكن أن تضمن ديمومتها: الرواية والقصة والشعر وعي بالموضوعات والتقنيات. ربما كان بعض إحجام الكتَاب عن الاهتمام بالأسفار ناتجا عن هيمنة الأجناس الأدبية الأخرى، ومن ثم رغبتهم في التركيز على الكتابة السردية والشعرية من أجل الشهرة. أتصور أن هذا العامل لعب دورا أساسا في تهميش الرحلة، على عكس ما هو متعارف عليه في بلدان عربية أنشأت لهذا الجنس مخابر خاصة تهتم بأشكاله وموضوعاته ولغته وبلاغته. يبدو لي أن أدب الرحلة غاية في الأهمية. أتذكر في هذا السياق، الرحلات التاريخية المؤثرة، ومنها، على سبيل التمثيل، رحلة ثلاث سنوات إلى شمال غربي أفريقيا للرحالة الألماني هاينريتش فون مالتسان: إنها رحلة مليئة بالمعارف المختلفة، عميقة وفائقة الجودة، سرديا وثقافيا وتصويريا وتأصيليا، وهي أفضل، من منظوري، من مئات المؤلفات السردية والشعرية المكررة التي لا تقول شيئا، وما أكثر هذه الكتب التي ليست كالكتب التي يمكن أن نحتفي بها. مع ذلك لا يمكن أن نفرض على الكُتَاب هذا النوع النادر في البلد نتيجة لعدة أسباب. للكاتب خياراته وذائقته وموهبته وطريقة تعامله مع الوجود والتاريخ، شأنه شأن أي فنان يختار وجهته، أمَا أدب الرحلة فقد يظهر في أي وقت، بحسب السياق والمتغيرات والحاجة والجانب النفعي. الوقت وقت الرواية، لذلك لا يمكن أن ننتظر ظهور أدب الرحلة في أقرب الآجال، لكنه قد يأتي عندما تنضج التجربة، وقد لا يأتي أبدا. من الصعب التكهن بالمتغيرات اللاحقة بالنظر إلى المؤثرات التي تتحكم في الفعل الإبداعي برمته. عبد الله العشي/ كاتب وأكاديمي الرواية والتحقيق الصحفي اخذا مكان أدب الرحلة لم تحظ الرّحلة بموقع ذي أهمّية في تاريخ الأنواع الأدبية العربيّة، فلم يؤرَّخ لها في كُتب التراث، ولم تصنَّف، إلا نادرا، في الدراسات الحديثة على الرغم من أهمية ما أنجزه القدماء من كُتب في الرحلة، ربما يعود السبب إلى كون الرحلة شكلا أدبيا يتسع لينتمي إلى دوائر معرفية متعددة كالتاريخ والجغرافيا والسيرة والكتابات الثقافية الأخرى، مما يقلل من أدبيته بالقياس إلى أشكال الأدب الأخرى. والمتأمل في الرحلة يراها فضاء لتجمع معارف متعددة ليست القيمة الأدبية هي المهيمنة عليها. كما لم يكن ما كُتب، قديما، كافيا، الآن، لتأسيس تقليد أدبي يمكنه أن يكون مصدرا لتوليد أشكال من الرحلات أو حافزا على كتابتها وتطويرها، إضافة إلى أن أشكالا كتابية أخرى هيمنت وهمّشت الرحلة، وتأتي القصة والرواية والتحقيق الصحفي والإعلام المرئي في مقدمة تلك الكتابات. ولم تتمكن الرحلة، لذلك، من تطوير بعدها الأدبي لتظل داخل الدائرة الأدبية فانزاحت إلى عتبة الأدب، وبقيت شكلا ثانويا قليلا ما ينتبه إليه. ولم تعرف، بالتالي، تراكما يؤهلها لتحوز وجودا مؤثرا كغيرها من الأنواع الأدبية. لا يمكن أن نتحدث عن أدب رحلة متكامل في الجزائر، فأغلب ما كُتب كان أقرب ما يكون إلى المقالات الصحفية القصيرة التي لا تتعدى الحلقة والحلقتين يكتبها بعض الكُتاب بعد عودتهم من رحلاتهم، وقد يكون المرحوم الدكتور أبو القاسم سعد الله أكثر الكُتاب اهتماما بكتابة الرحلة، كما كان محققا ودارسا لها، ولعله اعتبرها شكلا من أشكال الكتابة التاريخية يخرج به من الأكاديمية الصارمة إلى الاسترسال الذاتي الحرّ، وكان يسجل رحلاته، في الداخل والخارج والتي يراها هامة، وقد نشر عددا منها في كتابه: «تجارب في الأدب والرحلة»، وللدكتور عبد الملك مرتاض تجربة هامة ومتميزة كمًا ونوعًا تقوم على تقاطع وتفاعل بين السيرة والرحلة والترجمة والتوثيق، أقامها على سرد صداقاته المتعددة ولقاءاته في مدن الدنيا، كل صديق يجره إلى بلد وكل بلد يجره إلى رحلة وكل رحلة تجره إلى سيرة، نتمنى أن نراها مطبوعة في القريب إن لم تكن قد طبعت. وقد قام الزميل الدكتور عمر بن قينة بأول دراسة أكاديمية عن أدب الرحلة في الجزائر. ثم تلتها أعمال أخرى تشرفتُ بالإشراف على بعضها ومناقشة بعضها الآخر. والآن، وبعد تطور مناهج النقد الأدبي، وتطور الحفر في التراث والبحث عن النصوص المهمّشة، ظهر اهتمام علمي بالرّحلة، وتمّت دراستها من منظور علم السرد الحديث، فأنجز عدد من البحوث العلمية التي تهتم بأدبية الرحلة سعيًا إلى استعادتها إلى الدائرة الأدبية بعد أن اختطفها «الأدب الجغرافي» وغيره. هل أدب الرحلة ضرورة الآن؟ النّوع الأدبي يكون ضرورة بقدر ما تكون ثمّة حاجة إليه، حاجةٌ فردية أو جماعية، وحين تنتهي تلك الحاجة ينتهي هذا الشكل أو النوع، وحين تظهر الحاجة يظهر، هكذا انتهت المقامات النثرية والموشحات الشعرية وغيرهما، وهكذا ولدت القصة والقصيدة الحرة وغيرهما. إن الدائرة الأدبية تتسع وتضيق، والأشكال الأدبية تدخل وتخرج من هذه الدائرة، لدواع بنيوية وأخرى موضوعية، وربما تخرج وتعود مرة أخرى لو اقتضت الحاجة تلك العودة. إن حركة النصوص وتحولاتها أشبه ما تكون بحركة الأفراد وتحولاتهم. حاليًا، لا أظن أن الرحلة يمكن أن تجد لها موقعا في الدائرة الأدبية، بحكم استئثار الرواية والقصيدة بالحاجات الجمالية لدى القُراء وقدرتهما على إشباعها، لكن يمكنها أن تكون رافدا لهما أعني للرواية والقصيدة. ونحن، كقراء، إن لم نستمتع بالرحلة فسوف نستمتع بغيرها، فالجمال ليس له شكل ولا نوع. ولا حيز ولا جهة. عبد الملك بومنجل/ كاتب وناقد قلة الوعي بأهمية الكتابة في هذا الفن سبب ندرته من المفارقة أن يكون أدب الرحلة أوفر الفنون الأدبية حظا من الحرية والمتعة والتشويق والتنويع بين أنواع الفنون وألوان المعارف، ثم لا يكون حظه من اهتمام الجزائريين إلا مهضوما ومغبونا، لا يكاد يلتفت إليه أديب ولا مؤرخ ولا مفكر! إن أدب الرحلة يتيح للكاتب مزية لا يتيحها غيره: يتيح له حرية التنقل بين الأجناس الأدبية المختلفة، وبين المعارف الإنسانية المتنوعة، دونما عائق: من السرد إلى الحوار، ومن القص إلى الخاطرة، ومن النثر إلى الشعر، ومن الوصف إلى التأريخ، ومن التاريخ إلى الجغرافيا، ومن علم النفس إلى علم الاجتماع إلى علم الإناسة إلى السياسة إلى الدين.. كل ذلك بسلاسة ويسر، ورشاقة وعفوية: لا تكلف ولا تفكك، ولا خوف من الاتهام بالخلط بين الأجناس والخروج عن الموضوع. لو يُتاح لأدب الرحلة كاتب أديب، واسع المعرفة خصيب الوجدان، لمنح الأدب الجزائري خاصة والعربي عامة فرصة غالية للاستمتاع الوجداني والفني والمعرفي بهذا الفن الوحيد الذي بوسعه الجمع بين حقول المعارف وألوان الأدب. ولكن ذلك لم يحصل في الجزائر، لا في العهد السابق عهد الاحتلال، ولا في العهد القريب عهد الاستقلال، لأسباب تاريخية أو ثقافية أو واقعية. لا نجد، عدا رحلة الورتيلاني (1713-1780م) قبل الاحتلال، ومقال البشير الإبراهيمي عن رحلته إلى باكستان خلال الثورة، وما أورده أبو القاسم سعد الله في كتابه «تجارب في الأدب والرحلة» المنشور عام 1983، ما يدل على اهتمام الكُتاب الجزائريين بأدب الرحلة. فما السبب؟ لقد عزا أبو القاسم سعد الله ندرة اهتمام الجزائريين في مرحلة الاحتلال بأدب الرحلة إلى افتقادهم حس التدوين، فهل استمر الأمر كذلك حتى بعد الاستقلال وانتشار التعليم والكتابة على نطاق واسع؟ أظن أن قلة الوعي بأهمية الكتابة في هذا الفن هي أكبر العوامل المؤثرة في ندرته أو غيابه. إن الأدباء ثم المؤرخين هم الأكثر أهلية لتدوين رحلاتهم في كتابة أدبية راقية، ولكن الأدباء يؤثرون الكتابة في الفنون التقليدية المعروفة من قبيل المقالة والشعر والرواية والدراسة والسيرة الذاتية. وربما اجتمع لهم من الرحلات ما يستحق التدوين، ولكنهم لا يدوّنونه في حينه إما لغياب حس التدوين كما ذكر سعد الله، وإما لتعويلهم على كتابة ذلك في سيرهم الذاتية، وإما لقصر رحلاتهم وانشغالهم بأعمال بحثية أو تأليفية لا تدع لهم فرصة لتدوينها. وإذا ساغ لي أن أتحدث عن تجربتي الشخصية في كتابة أدب الرحلة، فإني أرى أن انحصار رحلاتي في الرحلة العلمية، وانحصار مداها الزمني في بضعة أيام، كان يمنع من نهوض الخاطر إلى تدوين هذه الرحلات، فاكتفيت بكتابة خواطر قصيرة لتسجيل بعض الانطباعات لا أكثر، -نثرا- كما حصل بعد زيارتي لماليزيا وزيارتي الأولى للهند -وشعرا– كما حصل بعد إحدى رحلاتي الكثيرة إلى المغرب. ولكن زيارتي الثانية للهند (فيفري 2014) واتصالها المباشر برحلة طويلة من دلهي إلى أغادير المغربية مرورا بعمان ثم الجزائر ثم الدار البيضاء، وما تضمنته هذه الرحلة المزدوجة من المشاهد والمشاعر وحرّكته من الأفكار والخواطر، كل ذلك أحدث حاجة دافعة إلى الكتابة، فدوّنت الرحلة في صفحات عديدة، اكتشفت خلالها متعة الكتابة في أدب الرحلة. وهي منشورة على صفحتي في الفيسبوك (مارس 2014) لمن شاء الاطلاع عليها. وأنا أستغل هذه المناسبة لتحفيز الكُتاب، لاسيما الأدباء، على تدوين رحلاتهم في كتابة أدبية عالية المستوى، لأن ذلك سيتركها ذخيرة للأجيال أدبيةً وتاريخية وثقافية وعلمية. عيسى بخيتي/ أستاذ وباحث أكاديمي نص الرحلة التقليدي أوشك على الاندثار أسئلة هذا الملف، تدفعنا للقول هل أدب الرحلة هو ذلك الشكل الأدبي الفني الذي ورثناه، عن أجدادنا، (ابن فضلان، وابن جبير، وابن بطوطة، والورتلاني، والعياشي.. وهلم جرّا..) وبالتالي نحكم على الأعمال الرحلية من خلال هذه النمطية. في اعتقادي أن لب المشكلة هي هذه التي راح كثير من الباحثين والنقاد إلى اعتبار أن الساحة الأدبية الجزائرية في مفازة، وأن المنجز النصي في هذا الخصوص يعد في حكم العدم، ولو تريثنا قليلا وحكمنا على النص الرحلي بآليات النقد المعاصرة، لاختلف حتما الحكم، ولبات وعي آخر يساير الحركة الأدبية في هذا الشأن. إن الحكم على الأعمال الأدبية التقليدية بروح العصر بات يحمل في طياته تهميشا لكثير من الأشكال الأدبية. وخاصة منها أدب الرحلة، هذا الجنس الأدبي، -أقول- لو لم تحدد الشكلانية الروسية مفاهيمها حول خصوصية الجنس الأدبي وحدوده، لما أمكننا الحديث عن أدب الرحلة اليوم، وبالرغم من ذلك فإنه إلى اليوم، هو اعتقاد الكثير ممن لا يملك معرفيا هذه المفاهيم، حيث ينتاب الرحلة، على مستوى الشكل مسافة النص التي تقدر بالطول تارة وبالقصر تارة أخرى، أو على مستوى المضمون فهو يندرج ضمن وثيقة تجمع بين الفني والمعرفي. إن الذي هو غارق في انتظار النص الرحلي يأتيه بجلباب ابن بطوطة، وعمامة ابن جبير وزاد الورتلاني، فإن ذلك بات من المستحيل تحقيقه، ذلك أن أدب الرحلة قد تخلص بشكل كبير من عقدة السفر ومعاناة الطريق، وهذه العتبة هي التي كانت تعد حبكة النص الرحلي في الماضي، بينما تكنولوجيا العصر قد اختصرت مسافة هذه العتبة، بوسائل جد متطورة (طائرة، قطار، سيارة...)، وبفعل هذه الوسائل أصبحت الرحلة قصيرة المدة، سهلة المسار، وبالتالي لم تحقق في مضمونها ما حققته في الماضي. من هنا يمكن القول، بأن نص الرحلة التقليدي، أوشك على الاندثار، واستحدث فيه شتى الأمور والقضايا، وما بقي منه هو خصوصية المقارنة بين الهنا والهناك، أو بين الأنا والآخر. وهي في جملتها، ترمز إلى الخصوصية الثقافية بين المجتمعات، كما أن متعة السفر في حد ذاته تدفع بالمبدع إلى التنفيس بالكتابة. وفي هذا الصدد، يمكن اعتبار أن الرحلة هي مجموعة آراء وانطباعات ينقلها المسافر (الرحالة) فيدونها تقييدات يخص بها أهم ما شاهده، وما تفوق به غيره عن مجتمعه، أو العكس، في حدود الإثارة والتأثير. وحسب ما تطرقنا له، يمكننا اعتبار الساحة الأدبية الجزائرية تعج بالنصوص، التي لا سبيل إلى إنكارها، وفي اعتقادي أن العيب الوحيد، هو خلوّ الساحة النقدية من نقاد يحاكمون هذه النصوص فنيًا. فكثير من الكُتاب يكتب رحلته مقالات محتشمة على جريدة من الجرائد، في صمت، ثم يجمعها في صمت. إن هذا، لا يبرر عزوف الكُتاب عن كتابة تجاربهم الرحلية، وهذا لنقص الهمة في الكتابة تارة، والانشغال الذي يعانيه الكاتب والأديب، كما أن التحفيز في هذا المجال يعد معدوما بالإضافة إلى أن الكثير منهم لا يستسيغ الكتابة عن ذاته. وترجح الكفة في كتابة النصوص الرحلية –في اعتقادي- إلى الكُتاب الصحفيين الذين برزوا بشكل كبير سواء على مستوى الروبورتاج الذي يعد شكلا من أشكال الكتابة الرحلية، أو على مستوى الكتابة الرحلية ذاتها. وتحمل الساحة الأدبية الجزائرية الكثير من الأسماء الذين أسهموا بشكل كبير في هذا المجال، ولعل القائمة كبيرة، وإذا عرضناها كلها سوف تغيّر كثير من الأحكام والمفاهيم، إلا أن المقام لا يسمح ومنه سوف نكتفي بذكر كل من: محمد الصالح الصديق: شارك بنصوص أبرزها (رحلة إلى الحج- يومان في تلمسان–الجزائر ليبيا، ورحلة لا تنسى، ورحلات كثيرة أخرى مبثوثة في مذكراته رحلتي مع الزمان). عبد الله الركيبي بنصه: «في مدينة الضباب ومدن أخرى»، رابح خدوسي: «انطباعات عائد من مدن الجمال»، محي الدين عميمور: «سفيرا .. زادُه الخيال». كما أن له إسهامات أخرى في جرائد وطنية مختلفة. لكن يظل أبو القاسم سعد الله رائد الرحالين. أيضا، تقوم الرحلات الشخصية التي تتضمنها صفحات الجرائد على رغبة من الكُتاب الأحرار في نشر أعمالهم ومقالاتهم في الجرائد، رغبة منهم في الحفاظ على مستوى التدفق الإبداعي والإسهام به في حينه، نظرا لانعدام التكلفة المادية والمعنوية التي يفرضها النشر عامة، وحتى لا تودع هذه التجارب في أوراق مبعثرة قد تضيع مع الزمن، وتتلاشى قيمتها، التي قد لا تؤدي وظيفتها في حين ما قد تؤديه في أوانها، ثم إن غالبها يعد حجم نصها ضئيلا إذا أقدم على نشرها في كِتاب، لذلك يلجأ أغلب هؤلاء الكُتاب في نشر تجاربهم عن طريق الجرائد، وبعد ما يتحقق لهم من وفرة نصوص تجمع هذه الأعمال وتُنشر في كِتاب، يتضمن رحلات عدة، كما فعل «عمر بن قينة» في كتابه «صور وانطباعات من رحلات»، ورابح خدوسي في كتابه «انطباعات عائد من مدن الجمال»، وعز الدين ميهوبي في كتابة «ما لم يعشه السندباد»، ومولود عويمر في كتابه «شخصيات وذكريات، مشاهد من عالم الذاكرة»، والخير شوار في كتابه «الجزائر Earth –قراءة جديدة في الجغرافية الجزائرية-»، وعبد الرزاق بوكبة في كتابه «عطش الساقية»، وغيرها من الأعمال. وقد عرفت الرحلة الجزائرية عبر الصحف خلال الألفية الثالثة تقاليد جديدة وممارسات متطورة إضافة للتقاليد المعروفة، فقد استوحت خصائص متجددة عن التي عرفها الخطاب الرحلي في القرن العشرين، وأصبح الكُتاب يمارسون أشكال المقال الرحلي على غرار خواطر قصيرة تحرك انفعال الكاتب فيعبر عن تلك السفرية من خلال بؤرة السؤال عن قضية من القضايا المختلف شكلها ولونها. وعلى الرغم من أن هذا المجال الفني لم يلق اهتماما من الباحثين، إلا أن الإسهامات في مجاله تظل قائمة ومستفحلة في أدبنا المعاصر. عبد الرزاق بوكبة/ كاتب شغفي بكتابة الرحلة يتجاوز شغفي بكتابة أي جنس أدبي آخر أبادر إلى الاعتراف بأن شغفي بكتابة الرحلة، يتجاوز شغفي بكتابة أي جنس أدبي آخر، أنا «الزربوط» الذي لا يستقر على جنس، بل إنني أتعمد أحياناً مباشرة أسفارٍ معينة، فقط لأستمتع بكتابة تأملاتي في الإنسان والمكان، وأنا أحتك بهما في عفوية الماء. وقد بدأت التجربة العام 2007 في أسبوعية المحقق، من خلال مساحتي الأسبوعية فيها «خيوط»، حتى توفرت لدي مادة جمعتها في كتابي «عطش الساقية» العام 2010 عن دار فيسيرا. مارست في هذه التجربة شهوة الكتابة عن بعض المدن الجزائرية التي زرتها: الجلفة وبجاية وقسنطينة وتمنراست وأدرار ووهران وتلمسان، وكان أكثرَها تأثيراً رحلة مستغانم، حتى أنها بصدد الانتقال إلى المسرح. رصدت في هذه الرحلات، بعيداً عن التسجيلية التي يقتل الاكتفاء بها أدب الرحلة، لحظاتٍ إنسانية لا يمكن الوصول إليها ما لم يتمَّ عيشُها. الرحلة أن تعيش الطريق من غير بوصلة، وتمد عينيك وروحك إلى الشقوق والهوامش والزوايا والخفايا، ذلك أن الحقيقة لا تسكن إلا هذه البقع. وعادةً ما أستهدف أشخاصاً بعينهم، بعد دخولي إلى مدينة ما، ليكونوا الدليل إلى تلك الشقوق، ولا أذكر أنني استعنت يوماً بكاتب من أبناء تلك المدينة، فقطاع واسع من كتابنا لا يعرفون شقوق مدنهم إلا سماعاً، ولهم منها مواقفُ يمليها الخوف والحذر، وتحكمها نظرة الاستعلاء والاستبعاد. لازلت إلى غاية اليوم أحتفظ بصداقة أولئك الشباب، بل إنّ بعضهم بات يزورني عائلياً، منهم صالح.. بائع الفضة في تمنراست، والذي أطلعني على رسائلَ الكترونيةٍ بينه وبين حبيبته النرويجية آن، طالبة العلوم السياسية التي تعد رسالة عن وزير الخارجية النرويجي بالم، والذي اغتيل بسبب مساندته للشعب الفلسطيني. آن زارت الأسكرام وتعرفت إلى صالح، ووقعا في حب بعضيهما، لتبدأ حكاية أخرى بين الشمال والجنوب. أليست حكاية صالحة لأن تكون مشروعاً روائياً؟ هنا أعترف أيضاً، أن ثراء حياتي العاصمية، بعد أن باشرتها العام 2002، أحالني على الكتابة الروائية، وقد قادني الوعي بالكتابة، بغض النظر عن جنسها، إلى أن أمهد للرواية، بكتابة رحلاتي، فكل ما كتبته من رحلات، منشوراً كان أم غير منشور، هو في الحقيقة تمارينُ تسخينية قبل المباراة الروائية. من ثمار ذلك، أنني أحتفظ بمخطوط أخذت عنوانه من جملة في قصة من قصص مجموعة «الخيمة» لمحمد شكري هي «نساء ملأن أقداحي»، هذا المخطوط يتضمّن حكايات نساء روينها لي في الحانات، في بيروت وعمان وعجمان وتونس وطنجة وعنابة وبجاية ووهران وهلم بوحاً، ولم أطلق سراح التجربة، لأنها لم تكتمل بعد. كما أن روايتي القادمة «توابل الثعلب»، والتي سأتفرغ «لإكمالها» في رمضان الداخل، هي ثمرة لإحدى رحلاتي إلى مدينة معسكر التي كتبت فيها كتابين لحد الآن، أقصد مادتها الخام، ذلك أن الرحلة تمنحني ذلك، لأكمل أنا الدور بصفتي روائياً من خلال التخييل. هنا أتذكر ما كتبته في ديواني الزجلي «يبلل ريق الما»: علاش كل ما نسافر نكتب؟.