قضيت ساعات في مدينة العلمة بدعوة من رئيس البلدية الأخ اليتيم بلخير للمساهمة في الملتقى الثالث حول مجاهد الخفاء مسعود زقار، الشهير برشيد كازا (نسبة إلى كازابلانكا) وذلك بتحريض من الصديق أحمد عظيمي، رحبت به لأن الذكريات مع زقار تترابط مع الذكريات المرتبطة بالرئيس الراحل هواري بو مدين، إذا كان للمجاهد الراحل دور في التحاقي بمدرسة الرئيس بومدين في بداية السبعينيات، عبر قصة بالغة الطرافة، لعلي أستعيد اليوم بعض جوانبها. كانت الرحلة إلى العلمة متميزة دعوت فيها الله أن يُكرم من أكرمنا بالطريق السيار، وأن يزعج من أزعجنا بالانحراف الذي تم بين الأخضرية والثنية، وأفسد متعة السفر بالسيارة في واحد من أهم إنجازات الاستقلال. كان اللقاء ممتعا ومتميزا ووزعت علينا مجلة طيور العلمة التي أشرف على إخراجها سمير مخربش، وتم اللقاء تحت رعاية والي ولاية سطيف النشط، الذي كنت تعرفت عليه خلال تحملي وزر الثقافة، حيث كان يومها واليا لمستغانم. وأعود لذكريات الستينيات، حيث كنت يومها أمارس عملي الطبي في عيادتي الخاصة وأقوم في الوقت نفسه بالكتابة في "الجيش" الشهرية و"المجاهد" الأسبوعية و"الشعب" اليومية، وأتعامل مع بعض المؤسسات وعلى رأسها الغرفة التجارية كطبيب مستشار. وقررنا، الهاشمي العربي مدير الغرفة وأنا، أن نقوم برحلة إلى أوروبا أردت أن أدشن فيها كاميرا تصوير اشتريتها من نوع سوبر (8)، وهو ما بدأت بإنجازه فور ركوبنا طائرة سويسرا، فقد قمت بتصويرها من الخارج ثم صورت المطار من نافذتها وأدرت العدسة داخل ممر الطائرة لاستكمل صُوري. وبعد لحظات فوجئت برجل هادئ الصوت يقترب مني ليسألني باستنكار عن سبب محاولتي تصويره، ودهشت لأنني لم أكن لاحظت وجوده أصلا، وكان هذا واقعا تأكد لي فيما بعد، فقد كان كلوح الزجاج الشفاف لا يراه أحد، وكان في الوقت نفسه كالشلال الهادر إذا قرر أن يشعر الناس بوجوده. وطلب مني إعطائه الفيلم، ورفضت بالطبع، وقدم الرجل نفسه لرفيقي الذي حاول إقناعي بتسليم الفيلم فرفضت طويلا ثم وجدت أن التعنت في الحفاظ على لقطات لم تتجاوز الدقيقة ليست مبررا لكي أبدأ ورفيقي رحلتنا في جو الخصام. كان الرجل هو مسعود زقار، رجل المهمات السرية في عهد الرئيس بومدين، وواحد من أبرز أصدقائه، وأحد الذي عهد لهم بأهم جوانب الملف الأمريكي، وهو ما كان من أسباب نقمة المخابرات الفرنسية عليه ومحاولتهم الإيقاع به. وقمنا، العربي وأنا، برحلة ممتعة، وإثر العودة اتصل بي ليبلغني بأن رفيقنا يبحث عنّي وهكذا رافقته في زيارة إلى منزل "زقار"، وفوجئت هناك برؤية كثيرين يحملون المباخر للرجل، وجلهم اختفى عندما تحالفت عليه الأحداث. وقال مضيفنا بأنه روى القصة للرئيس الراحل فأغرق في الضحك قائلا له :"لم يجد محيي الدين من يصوره إلا أنت"، ثم قال بأنه لم يكن يعرف أنني خطاط جيد (Calligraphe) وهو ما أدهشني، ولكنه عندما روى ثناء الرئيس على كتاباتي، فهمت أن القصد هو مضمون الكتابات وليس شكلها. كنا في ديسمبر 1970 وخلال الحديث تلقى مضيفنا مكالمة هاتفية التفت خلالها نحوي وهو يقول لمحدثه : "إنه عندي هنا"، وفهمنا أنه كان يتحدث مع الرئيس الراحل، وعرفت للمرة الأولى ومن أسلوب الحديث مدى متانة علاقته بالرئيس، عندما قال لي بصوت عالٍ بأن سي بو مدين ذاهب إلى ليبيا في الأيام المقبلة فهل ترافقه، ورحبت على الفور بذلك، وتلك كانت البداية. وكانت تلك بداية الطريق نحو عالم السياسة، فقد عرفت بعدها أن الرئيس كان يريدني للعمل إلى جواره، وهو ما ترددت في قبوله نحو خمسة أشهر لكنني استسلمت أخيرا في بداية يونيو 1971، وأغلقت عيادتي الطبية نهائيا. وفي العام التالي تلقينا، السفير أبركان وأنا، دعوة لزيارة الولاياتالمتحدة من رائد الفضاء الأمريكي "بورمان"، فهمت فيما بعد أن وراءها رشيد، الذي كان ثالثنا، وتوقفنا في جنيف حيث مر بعدد من خبراء التحف القديمة ليشتري أشياء منها خاتم نسائي أثري، ولم أسأله بالطبع عن السبب، لكنني لاحظت عند وصولنا لواشنطن أنه كان يقدمنا على نفسه قائلا أنه مجرد رجل أعمال، أما الدولة الجزائرية فهؤلاء هم ممثلاها (ويجب أن أذكر هنا بأن العلاقات الدبلوماسية كانت مقطوعة بين البلدين). وكانت مهمتنا ببساطة جس النبض الأمريكي على عدة مستويات، وهو ما بدأته أنا بزيارة لوزارة الخارجية الأمريكية كان من أهم ما أذكره عنها أن رشيد اكترى لي سيارة "ليموزين" لم أركب مثلها في حياتي ولا أظنني سأفعل، وكنت قلت له أنني سآخذ سيارة تاكسي لأن هذا هو ما تسمح به تكاليف المهمة، فقال لي بودّ كبير : "إن الجزائر يجب أن تدخل إلى وزارة الخارجية الأمريكية في أضخم صورة ممكنة، والباقي ليس شأنك". وتمكنت بفضل صداقات رشيد من التعرف بعدد من كبار الكتاب من بينهم "أرنولد دو بورشغراف"، وآخرون من "الواشنطون بوسط" نسيت أسماءهم، وكان محور الحديث بالطبع هو الانطلاقة الجزائرية التي تحدت مقاطعة فرنسا للنفط الجزائري. كان زقار في الولاياتالمتحدة كسمكة في الماء، وفهمت سر تعلق الأمريكيين به عندما استقبلنا "بوب أندرسن" الشهير وحرمه فإذا برشيد يقدم للسيدة الخاتم الذي اشتراه من جنيف قائلا إن "أي هدية تقدم لها هي أقل من قيمتها، ولهذا رأى أن يقدم لها خاتما ورثه عن جدته المتوفاة". وتلألأت الدموع في عيني السيدة الكبيرة، ورأيت الامتنان الكبير في عيني أندرسون، وأعيدت العلاقات كاملة مع أمريكا بعد ذلك بشهور. وبدأت مرحلة عرفت فيها علاقاتنا نوعا من الفتور، عندما استعان أحد من اخترتهم للعمل معي بمسعود زقار لينتزع من مديرية الإعلام مديرية فرعية كانت مهمتها تلقي رسائل المواطنين، وليصبح هو مديرها، وخيل لي أن هناك من يريد أن يحجب عن الرئيس ما نتلقاه من رسائل، وما كنت أعرض أهمها عليه. ويتعرض رشيد لأزمة عائلية شخصية لا أرى داعيا للتوقف عندها، وتمكنت من إيقاف كلّ خبر عنها في الصحافة الجزائرية وفي "لوموند"، إنجيل الطبقة الحاكمة، ووعدت "بول بالطا" بأن المعنيّ سيتصل بهم مباشرة لتوضيح الأمر، ولم يحدث ذلك رغم أنني طلبته منه مباشرة، فنشر الخبر بالطبع، ولكن بعد أسبوع من قضية الطائرة. وهناك بدا لي أن الفتور ترك مكانه لنوع من العداء لم أعرف السبب الحقيقي له إلا بعد ذلك بسنوات، عندما عرفت أن رفيقا قال لرشيد أنني أنا الذي سربت أنباء الفضيحة لصحيفة "لوموند"، وهو افتراء لأن مصدر الصحيفة كان كنديا. وينتقل الرئيس بو مدين إلى رحاب الله، وتفبرك قضية ضد "زقار" وصل الاتهام فيها إلى مستوى الخيانة العظمى، فوضع في السجن العسكري، وذهبت إلى الأمين الدائم للمجلس الأعلى للأمن أحاول أن أفعل شيئا للرجل الذي ارتبط اسمه بالرئيس الراحل ولكن العقيد قال لي ببساطة أن عليّ الابتعاد عن الأمر كله لأنه أكثر تعقيدا مما أتصور. ثم أتلقى استدعاءً من المحكمة العسكرية في البليدة للشهادة حول وضعية مسعود زقار في الرئاسة ودوره، واستشرت بعض الأصدقاء فوجدت أن معظمهم يحذرني من أن الرجل مستهدف من قوى كبرى لا طاقة لي بمواجهتها، وبأن عدد أعدائي سيتزايدون إذا دافعت عنه أو قلت ما يمكن أن يُحسب عليّ. ورغم أنني كنت ممن خضعوا لتصفيات منتصف الثمانينيات، فقد استقبلت من قبل المحكمة العسكرية بكل تقدير واحترام، ولم يحدث أن حاول ضباط الأمن التأثير على شهادتي أو حتى تفخيخي بأسئلة تراد لها إجابات معينة لإعداد ملف معين، وأعترف أن تقديري للأمن وللقضاء العسكري تضاعف. وكان من بين الشهود العقداء قاصدي مرباح وسليمان هوفمان ومحمد أمير، لكن محامي المتهم الأستاذ عمّار بن تومي أبلغني بأن شهادتي كانت حاسمة لصالح زقار، لأن جل الشهود تقدموا للمحكمة كأصدقاء للمتهم، واعتبرت شهادتهم، التي أثنوا فيها على زقار، غير موضوعية، في حين تعرضت أنا، بناء على أسئلة رئيس المحكمة، لجوانب سلبية من تصرفاته ، وكان منها أنه كان يتتبعني عبر عناصره ويُحرض عليّ بعض الموظفين الذين أتيت بهم إلى الرئاسة لمعاونتي، ومنهم من استجاب لذلك أملا في منصب أعلى. ويقول بن تومي أن النظرة لشهادتي تغيرت عندما سئلت عن رأيي في تهمة الخيانة العظمى الموجهة للمتهم، فانفعلت بشكل لا إرادي وانتفضت غاضبا وأنا أقول بأن الرجل مجاهد ولم أعرف عنه إلا صفات المجاهدين، وخلافي معه أو سخطي عليه ليس مبررا لإنكار جهاده وفضله. وعندما عاجلني النائب العام بسؤال عن الرشاوى التي قيل أنه كان يتلقاها من الأمريكان نفيت ذلك على الفور وقلت بأنه كانت هناك هدايا، ولكن رشيد هو الذي كان يقدمها للأمريكان وليس العكس، ثم رويت قصة الخاتم والليموزين وقصص أخرى عن أسلوب اختراقه لمجتمع الصفوة الأمريكية ومقدرته التأثير على بعض رموزه. وكنت متأثرا فلم أر أمامي إلا القاضي، ولم ألاحظ وجود رشيد جالسا خلفي، وكان قد تجاهلني عند دخولي إلى منصة الشهادة، وعندما استدرت لأعود لمكاني فوجئت به أمامي يعانقني قائلا :"عرفت اليوم قيمة الرجال"، وكان أول ما فعله بعد صدور حكم البراءة أنه تناول العشاء في منزلي ومع أسرتي. رحم الله مسعود زقار، فقد كان نوعية متميزة من الرجال وجزءا لا يتجزأ من مسيرة النضال، والذي تعرض سنوات طوال لتعتيم كان جزءا من عملية التعتيم على الرئيس بو مدين. وهنا تكمن أهمية المبادرة التي قام بها شباب العلمة.