كان من الممكن أن يمر العام 2012 كالسنوات الثلاث أو الأربع التي سبقته، والتي مثلت حالات من الركود الكبير والتأزم في مسيرة المشروع الوطني الفلسطيني. ولكن هذا الوضع تغير مع الانتصار الذي حققته المقاومة الفلسطينية بقيادة حركة حماس في قطاع غزة، ومع الحراك الذي شكله حصول فلسطين على مقعد دولة غير عضو في الأممالمتحدة. ما هي أهم الدروس من معركة غزة و"اختراق" نيويورك؟ وكيف يمكن لهذه الدروس أن تؤثر على مسار المشروع الوطني الفلسطيني؟ انتصار غزة وتعدد مسارات النضال يمثل الانتصار الفلسطيني على آلة الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، الانتصار الأوضح للشعب الفلسطيني منذ انطلاق الثورة الفلسطينية المسلحة في العام 1965. ويمتلك هذا الانتصار أهمية إضافية كونه تم على أرض فلسطينية شبه محررة، وهو ما أكد أن هذا الجزء من فلسطين لم يعد مجرد حديقة خلفية للكيان الصهيوني، بعد أن استطاعت المقاومة الانتصار على أرضه في ثلاث حروب متتالية: هي حرب الفرقان "الرصاص المصبوب"، ومعركة الاحتفاظ بشاليط، وأخيرا حرب حجارة السجيل "عمود السحاب" إن الانتصار الأخير وما سبقه من انتصارات يرتبط ارتباطا عضويا بالمنهج التي اتبعته حركة حماس في قطاع غزة، والذي بني أساسا على تعدد المسارات. فبينما قبلت الحركة بمسار التهدئة في عدة محطات بعد سيطرتها على القطاع، وخصوصا بعد الحرب المكلفة والمدمرة التي شنتها دولة الاحتلال في العام 2008/2009، لكنها في نفس الوقت لم تتخل عن مسار المقاومة. لقد تعرضت حماس للهجوم من قبل معارضيها وخصومها من كافة الاتجاهات وعلى رأسهم حركة فتح، باعتبارها تستخدم المقاومة كشعار بينما تقبل بالتهدئة، ولكن هذا الانتقاد أظهر عدم صوابيته بعد البلاء الحسن في مواجهة العدوان الإسرائيلي، والذي لم يكن ليحدث لو اكتفت حماس بمسار التهدئة ولم تعد كل ما تستطيع من قوة من خلال تبنيها لمسار هادئ للمقاومة، اعتمد على تهيئة السلاح والخطط الدفاعية دون اللجوء للمقاومة بطابعها الهجومي، وهو المسار الذي ظهرت معالمه من اللحظة الأولى للعدوان، حيث بدت الحركة متماسكة ومستعدة، بعكس حرب الرصاص المصبوب التي تمكنت خلالها "إسرائيل" من استخدام عامل الصدمة ضد حركة حماس بعد الضربة الجوية الأولى. إن هذا الدرس الذي تقدمه تجربة الانتصار في غزة يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار من قبل الفصائل الفلسطينية والسلطة الفلسطينية على حد سواء، ولعله وهو يقدم دليلا على حسن الاستعداد من قبل حركة حماس، يظهر من جهة أخرى إشكالية اعتماد السلطة الفلسطينية على المفاوضات كمسار وحيد، وهو ما يفقد السلطة أي قدرة على المناورة. ومن المهم الإشارة إلى أن المسار الآخر ليس بالضرورة هو مسار الاستعداد للحرب كما جرى في قطاع غزة، وإنما هو أي مسار يعطي الفرصة للسلطة الفلسطينية أن تمتلك بديلا آخر سوى المفاوضات التي أظهرت عقمها حتى الآن. الرهان على صمود الشعب يقدم الأداء السياسي لحركات المقاومة في الحرب الأخيرة درسا آخر يتمثل في أهمية الرهان على صمود الشعب الفلسطيني وقدراته، إذ أن المفاوض الفلسطيني لم يكن ليمتلك القدرة على الصمود في مواجهة شروط الاحتلال في ظل القصف الإسرائيلي الهمجي على قطاع غزة، لولا أنه يثق بقدرة الشعب الفلسطيني على الصمود وأن بإمكانه أن يراهن على هذا الشعب الذي لم يخذل المقاومة في أي مرحلة من مراحل الثورة الفلسطينية. وتبدو أهمية هذا الدرس لأنه يعطي دليلا على قدرة الشعب الفلسطيني على تحمل خيارات صعبة، إذا اضطرت القيادة الفلسطينية لاتخاذ مثل هذه الخيارات. وهو ما يسقط الادعاءات بأن الشعب الفلسطيني قد تعب من المقاومة وتكاليفها، وأنه غير مستعد لخوض تجربة جديدة تحمله المزيد من الخسائر والأعباء، ويظهر بأن هذا الشعب يستطيع الاستمرار بتحمل هذه التكاليف، ما دامت قيادته تقدم النموذج والقدوة بالتضحية، وما دامت تقدم له انتصارات عسكرية أو سياسية مهما صغر حجمها. المفاوضات برؤية جديدة يظهر انتصار غزة ضرورة تبني إستراتيجية مختلفة للنضال السياسي والمفاوضات، تقوم على ثنائية الصمود وامتلاك أوراق القوة. إن إنهاء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة بالشكل الذي انتهى إليه لم يكن ممكنا دون صمود المفاوض السياسي لحركات المقاومة، الذي رفض إملاءات الكيان الصهيوني واستطاع أن يفرض شروطه عليه، على الرغم من الرسالة الواضحة التي أرادت إسرائيل" توجيهها لهذا المفاوض من خلال تكثيف الطيران الصهيوني لضرباته الصاروخية للمدنيين في آخر يومين من أيام الحرب، في محاولة للضغط على المفاوض الفلسطيني ليقدم التنازلات السياسية بهدف حقن دماء المواطنين. ولكن هذا الصمود لم يكن ممكنا دون امتلاك المفاوض لأوراق قوة عسكرية في أرض المعركة، التي تتمثل بقدرة المقاومة الفلسطينية على خوض حرب حقيقية تستنزف الكيان الصهيوني سياسيا وعسكريا واقتصاديا، وهو ما دفع نتنياهو وفريق حربه المصغر إلى القبول بشروط المقاومة والتوقيع على التهدئة المتبادلة، بعكس ما حدث في حرب الرصاص المصبوب عام 2008/2009. إن هذا الانتصار يقدم درسا من الممكن أن يقود إلى تغيير نهج التفاوض الذي تخوضه السلطة الفلسطينية والرئيس عباس (أبو مازن) دون الاعتماد على ثنائية الصمود وامتلاك أوراق القوة، وهو ما أدى إلى عجز هذا النهج عن تحقيق الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية، باعتراف قادة هذا النهج وعلى رأسهم أبو مازن. اختراق نيويورك نهج جديد بعيدا عن الجدل حول المكاسب والخسائر التي ستنتج عن حصول فلسطين على صفة دولة "غير عضو" في الأممالمتحدة، فإننا سنركز على نهج السلطة الفلسطينية في هذه "المعركة" وتأثيراته على مسارات المشروع الوطني الفلسطيني في المستقبل. إن الدرس الأول الذي يمكن استخلاصه من هذا الحدث هو إمكانية أن تقول السلطة الفلسطينية "لا" للضغوط الأميركية و"الإسرائيلية" دون أن تمثل هذه ال "لا" نهاية العالم بالنسبة للسلطة وللفلسطينيين. لقد ذهب الرئيس عباس إلى نيويورك على الرغم من الرفض والضغوط والحملات الدبلوماسية التي قادتها كل من واشنطن وتل أبيب، وهي نفس الضغوط التي أدت سابقا إلى تراجع السلطة عن بعض الخطوات الدبلوماسية حتى في عهد الرئيس الراحل ياسر عرفات، كما حدث في العام 1999 حينما تراجع عرفات تحت الضغوط الأميركية عن إعلان الدولة الفلسطينية من جانب واحد بعد انتهاء الفترة الانتقالية حسب ما هو محدد في اتفاقية أوسلو، وهو ما يعني أن السلطة -على الرغم من ضعفها- يجب أن تمضي في طريق المواجهة السياسية، ما دامت تؤمن بالنهج السياسي سبيلا لاسترجاع الحقوق الفلسطينية. من المؤكد أن موقف السلطة قد أدى لممارسة بعض الضغوط الاقتصادية خصوصا من قبل "إسرائيل" والولايات المتحدة، ولكن الأمر الأكثر تأكيدا أن هذه الضغوط لن تصل إلى حد يؤدي إلى انهيار السلطة، باعتبارها مصلحة أميركية وإسرائيلية، كما ظهر في عدة مفاصل تاريخية، كان آخرها السعي الإسرائيلي الحثيث لمنع تطور المظاهرات المطلبية والاقتصادية التي شهدتها الضفة الغربية في سبتمبر/أيلول الماضي إلى انتفاضة شاملة تؤدي إلى انهيار السلطة. أما الدرس الثاني الذي يمكن استخلاصه من "معركة" نيويورك فيتمثل بإمكانية استخدام الطرق الدبلوماسية لتحقيق مكاسب تراكمية على طريق النضال الفلسطيني، ومرة أخرى هنا بعيدا عن الجدل حول نتيجة الخطوة، فإن المهم هو أن تقتنع السلطة بضرورة استثمار التأييد العالمي الواسع على مستوى الجمعية العامة والمؤسسات الفنية الأخرى للأمم المتحدة، بهدف تحقيق انتصارات قانونية ودبلوماسية. وعند الحديث عن هذا الدرس فإن من الضروري الإشارة إلى التقصير الفلسطيني في خوض هذا المسار، على الرغم من التكرار الدائم لمقولات النضال السياسي والدبلوماسي من قبل قيادة السلطة. ويظهر هذا التقصير مثلا في عدم السعي للبناء على تقرير غولدستون حول جرائم الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، وعدم متابعة الحكم القضائي الصادر عن محكمة العدل الدولية في لاهاي في العام 2004 حول تجريم بناء الجدار العازل، إضافة لتعهد السلطة بعدم الانضمام لميثاق روما حتى لا تتمكن من ملاحقة القادة "الإسرائيليين" على جرائمهم في المحكمة الجنائية الدولية. كما يذكرنا هذا الموضوع بانضمام فلسطين إلى منظمة اليونسكو، وهو ما لم تتبعه إجراءات عملية في هذه المنظمة للضغط على "إسرائيل" لوقف جرائمها ضد "التراث العالمي" في القدس والخليل وغيرهما من المناطق الفلسطينية. إن الدروس التي تقدمها تجربة نيويورك يمكن أن تؤدي إلى تغيير جذري في مسار المشروع الفلسطيني، يتحول معه النضال الدبلوماسي إلى معركة حقيقية يحقق الفلسطينيون فيها انتصارات تراكمية، ولكن هذا يتوقف أولا وخيرا على استيعاب لهذه الدروس، وامتلاكها الإرادة لتحويلها إلى نهج جديد في النضال السياسي الفلسطيني -------منقول عنhttp://www.aljazeera.net/analysis/pages/d9af6ad1-5cf4-427b-8407-3c33be7857f9?GoogleStatID=24