المدرسة كوّنت العديد من التلاميذ الذين ألهبوا الثورة بكفاحهم المستميت والبطولي مدرسة الفلاح بالمدينة الجديدة وهران، منارة علم وقلعة شامخة في تربية الأجيال وتكوين النشء الصالح الجاهز لخدمة وطنه المفدى، حيث تأسست حسب العديد من المؤرخين في 1937، وقد جاءت مدرسة الفلاح نتاجًا لجمعية الفلاح الّتي أسّستها مجموعة من الشّخصيات العلمية، قبل أن يعمد المستعمر إلى غلقها لفترة محدودة فيما بعد، باعتبار أنّ المدرسة عملت منذ نشأتها على تدريس اللّغة العربية والعلوم الشّرعية على أيدي مجموعة من العلماء الّذين سخّروا كلّ طاقاتهم وجهودهم من أجل الحِفاظ على الهويّة الجزائرية العربية، ونبذ كلّ الأفكار الّتي كان يسعَى المستعمر من خلالها إلى طمس الانتماء العربي والإسلامي للشّعب الجزائري. ولمعرفة المزيد عن هذا الحصن العلمي والروحي، الذي ضايق وأزعج الاستدمار الفرنسي في تلك الفترة، سجلنا أمس السبت هذه الشهادة مع المجاهدة زموشي صليحة ابنة الشيخ محمد السعيد زموشي، حيث أكدت لنا "مدرسة الفلاح" تأسست بفضل مواطني ومواطنات ولاية وهران، حيث قام والدي رحمة الله عليه بجمع أعيان الولاية لما كانت جمعية الفلاح تنشط في ذلك الوقت، لإعلامهم بأنه سيتم تأسيس مدرسة جديدة لفائدة شباب وشابات وهران، في شارع "إيميل دولور" بالمدينة الجديدة، حيث كان فيها أربع أقسام لتعليم ونشر اللغة العربية، ودرس فيها معلمون بارزون على غرار الشيخ حماني، الشيخ السنوسي، والشيخ مجاجي، أما السعيد زموشي فتكفل حسب شهادتها بتدريس كبار السن واليافعين، على غرار عيسى مسعودي، خديجة خثير، أمينة زعنان وآخرين، وهذا بمتابعة مباشرة من الشيخ البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء المسلمين بعد وفاة الشيخ عبد الحميد بن باديس. وصية ابن باديس للشيخ سعيد وبعد تخرجه من جامع الزيتونة وحصوله على شهادة الدكتوراه (جائزة التطويع) وعودته إلى عين البيضاء بقسنطينة مسقط رأسه، أخذه جدي إلى عبد الحميد بن باديس، ولما لاحظ هذا الأخير قدرات ومستوى والدي الكبير في اللغة العربية، فضلا عن الإرادة الفولاذية التي كان يتمتع بها قال له العلامة ابن باديس ..."يا سعيد تسعد بيك معسكر ووهران" هذه الشهادة تمثل تزكية هامة وتاريخية لوالد السيدة صليحة وشقيقتها فتيحة التي كان جالسة معنا لحظة تسجيل الشهادة، إذ كمرحلة أولى تم إرساله إلى معسكر وهنا كوّن جمعية التربية والتعليم وفتح مدرسة وبدأ يدرس فيها نخبة كبيرة من البنات والبنين، ثم بعدها بدأ نشاطه في ولاية وهران، حيث واجه صعوبات كبيرة بسبب مضايقات الاستدمار الفرنسي، وكان في كل مرة يتم استدعاؤه من قبل حاكم وهران "لمبير لفيفر"، ونائب الحاكم ومسؤول الأمن الفرنسي، واصفين إياّه بالرجل الخطير ويزعم أنه لا يمارس السياسة إلا أنك في الواقع يمارسها تحت غطاء ديني... وحسب شهادة المجاهدة التي كانت تسرد لنا الوقائع بدقة متناهية وذاكرة كبيرة، فإن مؤسس مدرسة الفلاح، كان يقلق كثيرا السلطات الاستعمارية، خصوصا وأنه رفقة العلماء والأساتذة الذين كانوا معه، لا يضيعون أي احتفالية دينية أو وطنية تحل في تلك الفترة، على غرار إحياء غزوة بدر الكبرى، المولد النبوي، تنظيم الندوات وأنه يجب توسيع الأنشطة حتى تمسح أكبر شريحة ممكنة من المواطنين، ليتم بعدها شراء قطعة أرضية في شارع "جوزيف أنرديو" بساحة الطحطاحة وقام السكان ببنائها من أموالهم الخاصة، حتى يتم توسيع المدرسة لفائدة الأطفال الذين يريدون تعلم القرآن واللغة العربية، إذ كان يوجد بها 6 أقسام ويدرس فيها التلاميذ ذكورا وإناثا دون استثناء... فتحنا المدرسة وغدا الجزائر ولدى تطرقها عن يوم الافتتاح، فقد وصفته السيدة صليحة بالتاريخي والكبير، "حيث كنت صغيرة لما أهديت باقة من الورود للشيخ البشير الإبراهيمي والعربي التبسي وتوفيق المدني وكان والدي معهم"، وأتذكر جيدا أنه "من حمام الساعة بالمدينة الجديدة والناس تمشي في صف واحد : "تكبر وتسبح ... بسم الله والحمد لله والله أكبر"، ليقوم محافظ الشرطة الفرنسي بتوقيف الحشود الكبيرة ليلتقى معهم وجها لوجه وبشكل أدق أمام السعيد زموشي، حيث قال له "أوقفوا هذه التظاهرة، لا نريد وهرانيين هنا، فقط الأجانب..." فرد عليه المرحوم هذا اليوم يومنا وغدا سأكون عندك في مكتبك" بهذه العبارة القوية فاجأ المرحوم الجلاد الفرنسي، ليتم تجاوز الشرطة الفرنسية وإكمال المسير، باعتبار أن عددهم كان كبيرا وجاءوا من جميع القطر الوطني، لحضور هذا اليوم التاريخي الخالد، حيث قدّم والدي خطبة حماسية شهيرة، قال فيها "اليوم فتحنا هذه المدرسة... مدرسة الفلاح التابعة لجمعية العلماء الجزائريين المسلمين، وغدا سنفتح الجزائر حرة مستقلة إن شاء الله... والحرية لا تعطى تؤخذ بالدم ..." أما الشيخ العربي التبسي فكان كعادته فصيحا طلق اللسان، وأخرج جام غضبه على المستدمر الفرنسي الذي أراد إفساد حفل افتتاح المدرسة... مع العلم أنه في كل قسم كان يدرس قرابة ال35 تلميذا كمرحلة أولى ليرتفع العدد مع مرور الأيام بسبب إقبال الوهارنة على هذه المنارة المنيرة، إذ كانت تدرس فيها مادة اللغة العربية، التاريخ والجغرافيا، التربية الإسلامية...إلخ كما قام الشيخ محمد الطاهر فضلاء، بفتح قسم سماه "دار الآثار" تكفل بتأطيره الدكتور نقاش رحمه الله، حيث تضمن برنامج القسم ساعة للرسم والتنشيط، وتعلم كتابة اللغة العربية، ...إلخ كما أنشأ الشيخ حسن فضلاء "مجلة الفلاح" تقوم كل أسبوع تلميذة بكتابة مقال حول أهمية المدارس، التربية الألغاز، مقالات ... إلخ وعن البرنامج التربوي فكنا نشرع في الدارسة على الساعة الثامنة صباحا وننتهي على الحادية عشر صباحا، ومن الساعة الثانية مساء إلى الخامسة طيلة أيام الأسبوع عدا يوم الجمعة، حيث كان اللباس عاديا ولكل تلميذ الحرية فيما يرتدي، موضحة أنه في أحد الأيام طلب منا تغيير الزي وارتداء اللباس الشعري بمناسبة اجتيازنا الشهادة الابتدائية، حيث قال لنا الشيخ حسن فضلاء إن الشيخ العربي التبسي، سيأتي لزيارتكم، ومن الأفضل أن تلبسوا لباسا شرعيا ومحتمشا، كانت بالفعل لدى قادة جمعية العلماء المسلمين، عقيدة حقيقية للإصلاح، مواصلة الحديث "أنه ولما جاء الشيخ العربي التبسي في الصباح الباكر إلى المدرسة، من حسن حظي أنني كنت جالسة في الصف الأول وقال لي "ماذا تتمنين إذا استقلت الجزائر للمرأة الجزائرية؟ فقلت له "أتمنى للمرأة الجزائرية أن تكون وزيرة، شرطية مهندسة وطبيبة في جميع الميادين.." ومن بين المعلمين الذين درّسونا في ذلك الوقت حسن فضلاء، الشيخ أحمد قابة من تبسة، الشيخ بوجمعة، الشيخ شريف حماني، يمينة زعنان وفاطمة طياب، واجتزنا الشهادة الابتدائية في ولاية تلمسان بدار الحديث، وهي تعادل في اعتقاد محدثتنا شهادة الباكالوريا اليوم نظرا للمستوى الكبير الذي كنا يمتاز به التلاميذ. فرنسا تشمع "الفلاح" مضيفة أن الشيخ الياجوري رحمه الله لمّا كان يسألنا عن القرآن، كان يختبرنا اختبارا عسيرا وهو ما ساهم كثيرا في تكويننا والرفع من مستوانا العلمي والديني وقتذاك، ونتذكر جيدا انه مع النشاط الكبير الذي كانت تقوم به مدرسة الفلاح، تحرك الأمن الفرنسي وقام بغلقها، حيث كنا وقتها ندرس ليتم إخراجنا عنوة من الأقسام في 1953، وفي 1955 تم تشميعها نهائيا، بكينا وتأثرنا كثيرا لهذا الخبر الحزين، وبعد الاستقلال تم فتحها نهائيا لتعود للنشاط من جديد، ومن بين المناضلين والمجاهدين الذين درسوا في الفلاح عيسى مسعودي، الشهيد حمو بوتليليس، شملول، سجاري، مؤكد أن هذه المدرسة وباقي المدارس التي فتحت وقتذاك غرست فيهم الروح الوطنية، حيث تقشعر لك الأبدان لما تقرأ شعر ابن باديس "شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب " تتأكد أن الثورة الجزائرية لم تنتصر على العدو من فراغ بل بتضحيات هؤلاء الرجال،إذ ومنذ اليوم الأول للنضال والكفاح الذي شرع فيه سعيد الزموشي وهو يصف الاستدمار بالغاشم والمستبد، ولما اندلعت الثورة كان الجميع مكونا وحاضرا لهذه الهبة الشعبية العظيمة، وأن الكثير منهم استشهد في جيش التحرير على غرار بن سنوسي المدعو "معاوية"، سجاري وآخرين ممن درسوا في مدرسة الفلاح. وعن سبب تسميتها بهذا الاسم فقد جاء بعد اجتماع أعيان جمعية الفلاح وعلماؤها الكبار، من أجل إنشاء مدرسة لتعليم القرآن وتدريس التلاميذ، واتفقوا على تسميتها بالفلاح، على غرار غوتي دلال، قطاف، سي عبد القادر، الهواري سويح ووالد المجاهدتين صليحة وفتيحة زموشي، وقد تم تعيينه رئيس شرفيا للجمعية، فضلا عن دوره الكبير في تأسيس فريق مولودية وهران، حيث كان رياضيا ويعشق كرة القدم، وكان يحب اتحاد وهران ويدعو له بالفوز. هذا هو تاريخ المدرسة الذي يمثل بالفعل محطة هامة في التربية الروحية والعلمية، وكان سببا في توعية وتحسيس الشباب الذي استجاب لنداء الثورة مباشرة بعد إطلاق اول رصاصة في الفاتح من نوفمبر 1954.