إذا كان هناك من أسف يسجل بعد المصادقة المرتقبة نهار اليوم على مشروع الدستور من طرف أعضاء البرلمان بغرفتيه , فإنه يخص موقف المعارضة "المعارِضة" من هذه الوثيقة القانونية الأساسية . و الأسف ليس من أجل معارضة المشروع, ولكن لعدم تقديم أي بديل مقنع يمكن أن يبرر أمام الرأي العام الوطني ,مثل هذا الموقف الذي اختلفت المعارضة حتي في أسلوب التعبير عنه . إذ بدلا من حرصها على التمسك بمبدإ تطبيق القانون كما هو شأنها في العديد من الملفات والقضايا, راحت تركز على مطلب عرض التعديل الدستوري على الاستفتاء الشعبي رغم علمها أن الدستور نفسه هو الذي يحدد آلية تعديله بنص المادة 176 منه التي تؤكد أنه " إذا ارتأى المجلس الدستوري أن مشروع أي تعديل دستوري لا يمس البتة المبادئ العامة التي تحكم المجتمع الجزائري، وحقوق الإنسان والمواطن وحرياتهما، ولا يمس بأي كيفية التوازنات الأساسية للسلطات والمؤسسات الدستورية، وعلل رأيه، أمكن رئيس الجمهورية أن يصدر القانون الذي يتضمن التعديل الدستوري مباشرة دون أن يعرضه على "الاستفتاء الشعبي"، متى أحرز ثلاثة أرباع (3/4) أصوات أعضاء غرفتي البرلمان". و هو ما تم الحرص على احترامه حرفيا في مسار عرض وثيقة الدستور المعدل على المصادقة من طرف أعضاء البرلمان. ومن دواعي الأسف أيضا من موقف المعارضة, أن كل المطالب الجوهرية لهذه الأخيرة (أقصد المعارِضة منها خاصة), قد تضمنها مشروع التعديل الدستوري بما فيها حقوق المعارضة بدون أي تمييز بين الأحزاب السياسية المعتمدة , ومنها الحق في التعبير و الاجتماع , و الحق في الاستفادة من وقت عبر وسائل الإعلام العمومية يتناسب مع تواجدها عبر الوطن , و الحق في مساعدة الدولة بحسب نسبة تمثيلها في البرلمان , و كذا الحق في مناقشة غرفتي البرلمان جدول أعمال مقترح من طرف المعارضة , كما أسس التعديل الدستوري حقا للمعارضة لإخطار المجلس الدستوري حول القوانين المصادق عليها من طرف البرلمان. وحتى البرلمان الذي تزعم المعارضة أنه عانى من تراجع مصداقيته, حرص التعديل الدستوري, على تقوية سلطته, ودوره في الرقابة على الحكومة, حيث أصبحت الأغلبية البرلمانية تستشار من طرف رئيس الجمهورية في تعيين الوزير الأول. كما تم تقليص حالات التشريع بأوامر رئاسية , وحصرها في فترة العطل البرلمانية وفي الحالات الاستعجالية. دعم الترسانة القانونية وأضحى للبرلمان في ظل التعديل الجديد كامل الحرية في مناقشة خطة عمل الحكومة بكل استقلالية , و فرض التعديل إجبارية تقديم بيان السياسة العامة للبرلمان من طرف الوزير الأول سنويا . بالإضافة إلى لجان تقصي الحقائق فإن البرلمان سيكون بوسعه وضع لجان إعلامية , كما إن الموافقة المسبقة للبرلمان تصبح إجبارية قبل تصديق رئيس الجمهورية على الاتفاقات الاقتصادية كالمتعلقة بالدخول إلى مناطق التبادل الحر، و التجمعات الاقتصادية وكيانات الاندماج الاقتصادي و يتسلم البرلمان سنويا تقرير مجلس المحاسبة . و لأن مصداقية المجالس المنتخبة رهينة مصداقية الانتخابات , فقد تمت دسترة العديد من الإجراءات لدعم الترسانة القانونية الخاصة بتسيير الانتخابات , ومن ذالك "إلزام الدستور السلطات العمومية بتنظيم الإنتخابات في كنف الشفافية والنزاهة ,إلزام الدستور السلطات العمومية بوضع القائمة الانتخابية في متناول المترشحين ,و وضع هيئة عليا لمراقبة الانتخابات. هذه الهيئة الدائمة تكون مرؤوسة من قبل شخصية مستقلة وتتكون من قضاة وكفاءات مستقلة تختار من قبل المجتمع المدني، وتكون لها مهمة السهر على شفافية الانتخابات منذ استدعاء الهيئة الناخبة إلى غاية الإعلان للنتائج المؤقتة, لذلك من واجب المجلس الدستوري دراسة محتوى الطعون التي يتسلمها حول النتائج المؤقتة للإنتخابات التشريعية والرئاسية من حيث المضمون" . و هي إجراءات من شأنها أن تصبح مرجعا في مجالها للتجارب العالمية. بدلا من أن يحاول البعض فرض تجاربهم غير الناضجة علينا و بدعم من أطراف داخلية . و من دواعي الأسف كذلك أن بعض المعارضة المعارِضة تعترف أن التعديلات المقترحة قد كرست و حصنت الثوابت الوطنية , وعززت أركان نظام الحكم الديمقراطي الجمهوري , و دعمت استقلالية و مكانة المؤسسات الدستورية وعمقت التوجه الاجتماعي للدولة و واكبت التحولات الاقتصادية , ودسترت تجربة المصالحة الوطنية كإطار لدرء الفتن و جعل الجزائر في منأى عن العنف وعن كل أنواع التطرف، من خلال ترسيخ قيم المجتمع الجزائري الروحية والحضارية التي تدعو إلى الحوار والمصالحة والأخوة، في ظل احترام الدستور وقوانين الجمهورية , و تبرر رفضها للتعديلات بعدم الثقة في السلطة , هكذا بكل بساطة... مراعاة مصالح الجميع ومن دواعي الأسف أيضا , أن موقف المعارضة لم يراع مصالح كل الفئات الاجتماعية , والهيئات والمؤسسات والتنظيمات التي منحها التعديل الدستوري وظائف ومهام دستورية, حيث لا يخفى على المعارضة المعارِضة العدد الكبير من الهيئات التي حظيت بمكانة في الدستور المرتقب ,إذ زيادة على المجلس الإسلامي الأعلى و المجلس الأعلى للأمن اللذين كانا يحظيان بهذه المكانة , انضم إليهما في التعديل الجديد , مجلس أعلى للغة العربية , و مجمع جزائري للغة الأمازيغية , ومجلس وطني لحقوق الإنسان , ومجلس أعلى للشباب , وهيئة وطنية للوقاية من الفساد ومكافحته , ومجلس وطني اقتصادي واجتماعي كمستشار للحكومة , مجلس وطني للبحث العلمي والتكنولوجيا,زيادة على الهيئة الوطنية المستقلة و الدائمة لمراقبة الانتخابات . فهل تتحمل المعارضة عبء و تبعات مواقفها من كل هذه الفعاليات و القوى الحية في المجتمع ؟ ومن حسن حظ المعارضة, أن الدستور يراعي مصالح الجميع ويسهر على حقوقهم الفردية و الجماعية ويحدد واجباتهم , بغض النظر عن موقفهم منه . و المهم أن تستفيد المعارضة من أخطائها , وتنجح في التمييز بين ما يخدم المجتمع كله و بين ما يخدم الطموح الشخصي لزعمائها . و تستعد منذ الآن للمساهمة الإيجابية في الورشات العديدة التي سيفتحها الدستور الجديد على كافة الأصعدة .