كنت سعيدا وحزينا وأنا أفتح جريدة الجمهورية صباحا، في مقهى المسرح، بعد أن اقتنيت كل مجلاتي العربية الشهرية، آفاق عربية، الآداب، الموقف الأدبي، المعرفة، الثقافة التونسية، أمال والثقافة، من المكتبة المواجهة لفندق تيمقاد الجديد وقتها ، كنت أعرف جيدا أن مآل المنحة الطلابية كان يتبخر في الكتب والمجلات ، شعرت بسعادة بقراءة مادتي الصحفية منشورة، وأتلذذ بالمارة ليس بعيدا عن درب اليهود، أشرب شايي المنعنع ، كنت قد غطيت معرض رسامين برازيليين كبيرين تعرفت عليهما أثناء التغطية ، كنت مندهشا للتقنية التي أبدياها في العمل من استعمال للتربة المجففة و تقنية الحرق على الخشب ، وأستخرج الألوان البدائية من التربة الصلصالية، كتلك التي نراها في حضارتي الآزتك والمايا . كان رئيس التحرير، الصديق محمد الصالح، هو من بعثني للتغطية ، قال إنه تلقى إشارة من المدير عن المعرض، وأن العارضين هما من أهمّ الفنانين في البرازيل ، البيمول الوحيد هو أن المعرض كان في غاليري صغيرة، وفي مكان ضيق ، التقيت بهما ، كانت لغتهما الفرنسية لا بأس بها، على الرغم من أني تحدثت معهما بلغة إسبانية مفهومة لأخفف من جهودهما، قبل أن أدرك أن البرازيل من الدول النادرة في أمريكا اللاتينية التي لم تكن تتحدث الإسبانية ولكن البرتغالية ، كانت مادة التغطية صغيرة ومركزة لأن المساحة الممنوحة لي يومها كانت ضيقة ، الحيز الأكبر وهذه هي حالة الحزن، خصص للشاعر " حسن فتح الباب " مقالة طويلة كتبها حول رواية " نار ونور" للدكتور عبد المالك مرتاض، أستاذي في الأدب الشعبي ، كانت المقالة كلها مديحا مبالغا في الكاتب والكتاب ، الرواية كانت حديثة النشر، لكن مؤرخة، إذا كانت ذاكرتي جيدة، قبل صدور رواية " ريح الجنوب و اللاز " لوطار، مما يجعلها رواية تأسيسية، لكن ذلك لم يكن مهما،المهم هو أن الرواية التي كانت قد طبعت في سلسلة الهلال بمصر كنت قد قرأتها ، لأن مطبوعات الهلال، الكتب الشهرية والمجلة، كانت تصلنا من مصر، الرواية لم تعجبني ولم تعجب حتى أستاذي مرتاض الذي كتبها، حينما حاورته لصالح جريدة الشعب وقتها، كان المديح كبيرا لدرجة شعرت أن الدراسة كانت خالية من أية موضوعية ، الصدفة يومها شاءت أن أفتح مجلة الآداب البيروتية، لأجد مقالة للدكتور "حامد النساج "بها دراسة لنفس الرواية، ولكنها لم تترك فيها شيئا يصلح، لدرجة التجني، حتى إني شعرت أن من وراء ذلك تصفية حساب ما ، أحسست بأنه بين التجني والمديح غاب النقد نهائيا ، ضاعت المساحة المفترضة التي يتحرك فيها الناقد بموضوعية ، لم أكن سعيدا بما قرأت في الحالتين ، وأنا على الطاولة أحتسي شايا بالنعنع، بدأت أكتب مقالة صغيرة أرد فيها على الدكتور فتح الباب، وأنهيتها وأنا في قسم التحرير في الجريدة ، كانت ردة فعلي حادة أيضا ، قلت كأن من وراء ذلك مصلحة ما لا نراها؟ عندما نزلت إلى الجامعة في أحد الصباحات، مررت إلى قسم الحقوق لأرى صديقة لي من تلمسان، كانت تدرس هناك،يومها التقيت لأول مرة بالدكتور حسن فتح الباب ، رجل طيب وعرفت أنه كان حقوقيا كبيرا وخبير شرطة، شعرت بتأنيب الضمير لأني قسوت عليه، ثم بدأ يعتذر بطيبة : با ابني أيه دا؟ أية مصلحة لي؟ ، أنا ببساطة ظننت أنها أول رواية تكتب بالعربية، أو هذا ما فهمته من صاحب الرواية. ربما أخطأت في هذا، لكني شعرت بواجب قومي عليّ ممارسته ، أحسست ببعض الإحراج أمام رجل مثقف وطيب القلب ، بقدر ما كانت مقالته مدحية، كانت مقالتي نقضية له، لكن في النهاية كنت سعيدا بأن تعرفت على كاتب مصري كبير كان يدرس في قسم الحقوق ،عندما سلمني ديوانه الأخير، كنت مزهوا لأن فرصا مثل هذه لا تتكرر دائما ، كذلك كان مع سعدي يوسف لاحقا والسماوي و الكاصد وعلي كنعان، وعلي الجندي، وممدوح عدوان وغيرهم، سعد بي فتح الباب أيضا عندما عرف بأني كنت ممن يتابعون الكتابة الشعرية العربية من خلال مجلة إبداع والكاتب والأقلام والموقف الأدبي وغيرها من المجلات التي كانت كلها تدخل إلى الجزائر ونتسابق عليها عطشا ، عندما مشيت نحو قسم اللغة العربية، قرأت الإعلانات المتخفية تحت اللوح الزجاجي، التقيت هناك بالشاب المكلف من الإدارة يفتح الزجاج وتعليق الإعلانات، وجدته وهو يستعد لتعليق مقال حسن فتح الباب،فقلت له لماذا لا تعلق معها مقالة السيد حامد النساج ، قال جيبها ولكن ما شفتني ما شفتك، بالخصوص عندما حكيت له عموما عن فحواها، قلت على الأقل يقرأ الطلبة الرأيين، ويصنعون رأيهم الخاص، كانت ملعنة مني ومن بعض الأصدقاء في قسم اللغة العربية ،عندما جاء الدكتور مرتاض الذي كان في الوقت نفسه رئيسا للقسم، ظل يبحث عمن كان وراء الفكرة ، أكيد كانت ظنونه واضحة باتجاه مجموعة رفض لاحقا توظيفها في القسم ، ربما كان محقا، أحيانا أشكره في أعماقي ، بفضل اعتراضه على توظيفي، على الرغم من أني كنت الوحيد الذي يحمل دكتوراه دولة بعده ، وكان التوظيف من حقي لأني كنت مبعوثا من وزارة التعليم ولي حق لا نقاش فيه، لكن هذا الرفض دفع بي إلى العاصمة ووجدتني في قسم اللغة العربية بفضل الرجل العظيم والشاب دوما، الدكتور أبو العيد دودو ، تلك قصة أخرى ليس هذا مكانها ، اليوم أعتذر من أستاذي " عبد الملك مرتاض " بمفعول رجعي بعد سحب شريط الوقائع إلى الوراء، الشاب الذي علق مقالتي " فتح الباب والنساج "، احتاط بذكاء للفعل، فقد ترك لوح الإعلانات الزجاجي مفتوح، وقال للدكتور مرتاض إن الجناة خلعوا المفتاح بالقوة، فبعثه لشراء مفتاح جديد من مدينة السانية القريبة من الجامعة ، وهكذا أعاد الدكتور مرتاض سد مكان الإعلانات من جديد ولم يترك إلا مقالة حسن فتح الباب حتى حالت بفعل الزمن ، المصيبة عندما أفتح عيني اليوم أجد أن الكثير من أبطال هذه الجمهورية، عن قرب أو عن بعد، غادروا مساحة الأدب أو الكتابة الإعلامية، أو الحياة بكل بساطة، اليوم توفي الناقد الكبير " سيد حامد النساج " ، وتوفي قبل مدة قصيرة الشاعر الكبير " حسن فتح الباب " عليهما الرحمة ، وطول العمر لأستاذي الفاضل الدكتور " عبد الملك مرتاض " ، لم أرو هذا إلا محبة في الجميع، وأضع الشاب سينو، كما كان يسميني أطفال الحي، الذي لم يتجاوز عمره 21 سنة وقتها في مواجهة قدره. قدر الكتابة والحياة.