في ذلك الصباح الشتوي المليء بعطر وهران وروائح بناياتها الإسبانية القديمة ومرتفعات سيدي عبد القادر، جلس مدير الجريدة عيسى عجينة، بجانبي ، كان في جولة داخل الجريدة وكان صوته يُسمع من بعيد، احتجاجا أو شكرا، قبل أن يستقر به المقام في غرفة التحرير، قال وهو يتأمل أوراقي : ماذا تعد لنا يا واسيني؟ قلت: أحضّر مادة للجمهورية عن مسابقة الشعر التي نظمتها الجامعة ولجنة التطوع الطلابي، قبل أيام قليلة والتي اشترك فيها شباب الجامعة، المحبون للشعر. لا أدري لماذا سألني، ولكني قرأت في عينيه شيئا آخر. سألني عن عدد المتسابقين؟ قلت مجموعة لا بأس بها بالفرنسية والعربية. ضحك وهو يخفي رأيه كعادته: والجائزة كاش فيها دراهم وإلا غير دعاوي الخير؟ ضحكت. قلت: كمشة كتب تبرع بها أعضاء لجنة التحكيم. وحصة الأسد تبرع بها الصديق الشاعر محمد سحابة ، وتوزع الجوائز في احتفالية في قصر الرياضة. مكان واسع كبير يمكنه ان يستوعب عددا كافيا من الطلبة. وستستعمل حافلات الأحياء لنقل الطلبة. لم أكن أعرف وقتها انه كان بصدد اختبار معلوماتي في موضوعي ، هل أسيطر عليه أم لا؟ وهذا ركن من أركان المهنية ، ضحك في الأخير: مليح أن تتبرعوا بكتبكم. هذه طيبة منكم. لكن وقتاش يكملوا من البريكولاج في هذه البلاد، ويعطون جوائز حقيقية. والله لو تخطيك من الجامعة وتجي للجريدة أفضل. قالها عيسى قبل أن ينسحب، ولا أعرف إن كان جديا؟ لكني شعرت بغواية حقيقية للعمل الصحفي. ثم غرقت من جديد عملي. كنت سعيدا أن وقع الإجماع على الشاعرة الصاعدة وقتها زينب لعوج. كان فوزها بثلاث قصائد تقدمت بها للمسابقة منها قصدة الحياة للساعد المسافر. جاءت هذه الجائزة سنة قبل فوزها بجائزة الأدب والثورة التي كانت تنظمها في الجامعات، وزارة التعليم العاليم، وهي الجائزة التي سبق أن فزت بها أنا والصديق الحبيب السائح، في القصة القصيرة في السنة نفسها. كانت المنافسة كبيرة بينها وبين شاعرين معروفين اليوم، ولم يكن أي منهما قد طبع بعد ديوانا. كان نفس الرأي عند الشاعر محمد سحابة الذي رأى في زينب والشاعرين الآخريين، أملا أدبيا في الجزائر الجديدة التي كانت تكتب نفسها من خلال الإبداع الشعري. كما أعطيت الجائزة لشاعر باللغة الفرنسية بينما احتلت الرتبة الثانية والثالثة شاعرتان. حملت المادة كلها وقلت لصديقي الشاعر محمد سحابة، سأكتب عن الحدث وسننشر في الجمهورية القصائد الثلاث الفائزة، بالعربية والفرنسية. عندما جلس عيسى بجانبي كنت أعد التغطية التي بان فيها حماسي لقصيدة زينب جليا، ولم نكن يومها إلا صديقين في الجامعة، ولم أكن أعرف أن الأقدار ستقذف بنا معا إلى سوريا، ثم إلى قفص الزوجية. كنا نلتقي لنتحدث عن التطوع والعدالة الاجتماعية والأدب، وكانت نشيطة لدرجة أن اضطرت في مرة من المرات إلى مغادرة الجامعة بحايك غطته به عاملة في الجامعة حتى لا يتعرف عليها الإسلاميون الذي كانوا في حالة هياج، ويبحثون عنها لتشويه وجهها بالحامض، كما كانوا يفعلون مع البنات. نشرب أحيانا قهوة في مقصف الجامعة، أو نتحدث قليلا عن صدف الحياة و خيباتها ونمشي قليلا في الحي الجامعي ، كانت المساحة التي منحت لي لتغطية الحدث الأدبي في الجريدة جميلة، سمحت لي بنشر مختصر التقرير والقصائد الناجحة. الشاعر الذي احتل الرتبة الثالثة كان سعيدا، وكنت أيضا سعيدا من أجله. في الصباح رأيت الشاعرة التي احتلت الرتبة الثانية، وكنت أنا من أخذ منها قصيدة الترشيح. كانت تحمل في يدها جريدة الجمهورية، عرفتها من خطها الأزرق. ثم وقفت في مكان بحيث لا يمكنني أن لا أراها، ليس بعيدا عن مدرج الإبراهيمي. كنت أعرف أنها كانت غاضبة مني. لم تكن الوقفة طبيعية ولكن، كان فيها شيء من العتب الطفولي. لا أتذكر سوى انه يومها كانت الجو شتويا وباردا، وكانت تلبس الأحمر، وعلى عنقها فولار أزرق، وفي يدها كتاب لشاعر إسباني ربما كان للوركا. قالت وهي تكتم غضبها بصعوبة: هكذا إذن، لا أستحق أكثر من المرتبة الثانية؟ ضحكت كما عادتي في مثل هذه المواقف: الأول أو الثاني، أو الثالث، أي فرق؟ ليست إلا جوائز رمزية في النهاية. مجرد تجربة أولية نتمنى ان تستمر. المهم أراك في قصر المعارض عند توزيع الجوائز. قالت بجفاف ما نجيش. ثم نظرت إلي بحدة، بعينين حادتين مظلمتين. ثم قالت : هل قرأت جريدة اليوم؟ قلت لا. قالت خذ جمهوريتك، اقرأها ستجد فيها ما يروق لك. تركتها في يدي ثم انسحبت، وأنا أشم رائحة فتنة شعرية. عندما فتحت الجريدة على الثقافية كان العنوان بارزا، والإخراج جميلا: الشاعرة زينب لعوج تفوز بجائزة الجامعة في دورتها الأولى. ابتسمت. ثم واصلت تدحرجي نحو قاعة الدرس، جهة ليبراك (الأقسام الخشبية) محاضرة الدكتور عبد الملك مرتاض في الأدب الشعبي الذي كنت أحبه، لأني أعرف تفاصيل الحكايات والطقوس التي كان يرويها لنا أستاذ المادة. كنت أحيانا أتخيل الدكتور عبد الملك مرتاض من شدة حماسه، بالبندير والزعبولة وزامر عرفاء أمسيردا، وهو ينهِّر أو يرقص العلاوي، يقفز وينزل، يُعرّش ويُسبّس. تذكرت روايته نار ونور التي نشرت يومها في سلسلة الهلال المصرية التي كانت تدخل إلى الجزائر، وكتب عنها يومها الأستاذان، الشاعر الكبير حسن فتح الباب، والناقد المعروف حامد النساج، مقالتين متناقضتين كليا، الأول أعلاها للسماء، والثاني لم يبق فيها شيئا. وتلك قصة تستحق أن تروى لأن للجمهورية علاقة بذلك. أترك القصة للأسبوع القادم ..