خلال إقامتي بباريس الأسبوع الماضي استغرب الأديب اللبناني الظريف وصاحب برنامج " اعترافات " الذي يبثه كل يوم جمعة عبر إذاعة الشرق بباريس، وهو يستضيفني في برنامجه الأسبوعي، كيف أنني دوَّنتُ سيرتيِ الذاتية ضمن كتابي " مسيرة حياة .. من الخيمة إلى البرلمان.." وأنا في هذه السن المتقدمة؟ ، قلتُ له متسائلاً : هل تستشيرنا الموتُ إنْ حضرت أحَدَنَا في أية لحظة من أعمارنا؟..الموت يا صديقي تَسرقُ الصغير والرياضي والمريض وغير المريض، مثلما تفعل مع المسن و غير المُسِن، والكتابة ليست حالةً مرتبطة بالأعمار كبيرِها أو صغيرِها، الكتابة حالةٌ عشق ووفاء لماضينا وحاضرنا لنُذَكِّر مَنْ سيأتي بعدنا بما فعلنا و فعل غيرنا بِمرِّهِ و حُلوه ، ثم نترك للناس حقَّ الحُكم علينا أو لنا، وحقَّ التقييم ، ولكي لا نجعلَ الآخرين يتصرفون في تاريخنا بناءً على الأهواء و الأمزجة والعلاقات كيفما كانت في الضد أو المع، أوعلى الذاكرة أو الأقوال المكذوبة و الروايات المغلوطة . في أعقاب استعادة الجزائر لاستقلالها قام وفدٌ من المجاهدات الجزائريات بزيارة إلى جمهورية الصين الشعبية، وكان من بين أعضاء الوفد المجاهدة جميلة بوحيرد أطال الله عمرها التي تغنى بها العديد من الشعراء خصوصا في العالم العربي، ولدى استقبال الزعيم الصيني الراحل ماوتسي تونغ للوفد سألَ البطلة جميلة بوحيرد إن كانت قد دَوَّنتْ مذكراتها و سيرتها الذاتية ؟، ولَمَّا ردَّت بالنفي، راح الزعيمُ الصيني الكبير يتأسَّف، وكأنه يحثُّها على الكتابة قائلا لها بما معناه: إنك إن لم تكتبي اليوم مذكراتك وسيرتك الذاتية أيتها البطلة الكبيرة، فإنه سيأتي غدا من بعدك من يكتب عنك وعن ثورتكم العظيمة، ويُزوِّر كل شيء وربما سيجعلك أنت البطلة بالذات اليوم خائنةً في المستقبل !! ،لعل هناك من ضمن ذلك الوفد مَن يكون قد استغرب وربما استهجن ذلك القول في ذلك الوقت من الزعيم الصيني ، و لكن ما يجري اليوم من تخوينٍ و تخوين مضاد و قذفٍ وقذفٍ مضاد في حق الكثير من الرموز والشخصيات الوطنية بما فيها تلك التي عز ومجد الجزائر، وساهمت في صنع تاريخها يجعل الكتابة والتدوين ضروريان، بل ويجعل قول الرئيس الصيني الراحل ماو تسي تونغ حقيقة استشرفها الرجل قبل أكثر من خمسين عاما مضت . في يوم الخميس الماضي ودَّعْنا واحدا من الرجالات الإعلاميين الكبار في الجزائر نور الدين نايت مازي الذي أعطى نكهة وطنية للصحافة الجزائرية المكتوبة بالفرنسية ..كان الرجل مجاهدا بالقلم أثناء الثورة وصحفيا متميزا تولَّى العديد من المسؤوليات إثر استعادة السيادة الوطنية، من بينها إدارته المتميزة لصحيفة المجاهد بالفرنسية لفترة طويلة،حيث عمل تحت قيادته العديد من الصحفيين الشبان الذين يصنعون اليوم مشهد الصحافة المستقلة بالفرنسية من أمثال عمر بلهوشات و الطيب بلغيش وعبد المجيد شربال وغيرهم ، وكذا الكثير من الوجوه البارزة التي اغتالها الإرهاب الجبان في تسعينيات القرن الماضي، ومن بينهم جمال بن زاغو محمد عبد الرحماني و سعيد مقبل رحمهم الله جميعا وغيرهم . و الحقيقة أن رحيل نايت مازي و قبله رحيل العديد من الوجوه البارزة في حقل الإعلام والاتصال و السياسة الذين لم يتركوا للأجيال أي أثر مكتوب يتركنا نتأسف، كون أن رحيل كثير من الكبار والعمالقة عندنا يذهبون هكذا، حيث ننعيهم و نكتب عنهم و نتذكرهم اللحظة ، ولكننا قد ننساهم و تنساهم الأجيال اللاحقة لأنهم لم يتركوا شيئا وراءهم ،تماما كحال البطلة الحية الشهيدة جميلة بوحيرة التي يحسبها الكثير من الناس اليوم، خصوصا الشباب بأنها واحدة من شهيدات الجزائر وهي ما تزال حية ترزق، وعندما نطلّ على الأمم الأخرى نجد رجالاتها و نسائها من صنف بن عائشة و نايت مازي و محمد السوفي وعيسى مسعودي والآخرين رحمهم الله، ومن صنف المدني حواس والآخرين وما أكثرهم أطال الله أعمارهم يصمتون ولا يكتبون رغم أن لديهم الكثير من الحقائق الجميلة ..، وعندما يرتحلون تسكننا الحسرة لكونهم لم يتركوا لنا شيئا يحفظ تاريخهم،في حين أن نظراءهم الذين قد يقلون شأنا عنهم في الضفة الأخرى، خصوصا نجدهم يصنعون من اللاشيء كل شيء.. فها هو الصحفي الفرنسي و الرئيس السابق للمجلس الأعلى للسمعي الفرنسي والرئيس الأسبق لبعض القنوات الفرنسية هيرفي بورج Hervé bourge يضيف إلى رصيده الذي يحفل بعديد المؤلفات كتابا جديدا صدر منذ شهر تحت " ما تبقى لديَ إلا القليل في الحياة ، حتى أضيِّعَ هذا اليَسِير.." Jai trops peu de temps a vivre pour perdre ce peu ، و الأكيد أن العظماء يدركون أن حياتهم لم تكن لهم وحدهم و لكنها للأمة كلها، ولذلك فعندما يكتبون و يخلفون آثارهم مكتوبة أو مجسدة يفعلون ذلك لهم ولأمتهم و للإنسانية التي يتقاسمون معها كثيرا من القيم الجميلة بعيدا عن الشرور والأوهام و الحروب التي يفتعلها زارعو الفتن .